حب في دار المسنين


في دار المسنين يعيش على موعد زيارتها يوم العطلة، يسلي صيام انتظاره بكتابة خطاب لها، ما إن ينتهي حتى يبدأ من جديد.

حفيدتي الجميلة...

يتفرج على صور عيد ميلادها، يتأمل وجهها للمرة الألف: ابتسامتها المليئة بالشقاوة والطيبة، غمازتي خديها، شرائط شعرها الملونة، البالونات المعلقة المتدلية من ورق الزينة.

لقد طلب الابن، وسمحت الدار، وتوسلت الحفيدة، بكت وتشنجت أن يحضر عيدها لكنه صحا على ساقين متخشبتين.

أحضروا له شريطًا حيًّا مصورًا وبعض الصور الفوتوغرافية، وأصرت «وردة على أن تطعمه بنفسها نصيبه من التورتة».

احتج الكبار على مسألة التورتة، لكنها بكت، وهددت وتوعدت، ونفذت وعيدها سرًّا وهما يضحكان.

لماذا يصرون على أن تأتي «وردة» يوم الجمعة فقط؟ ألسنا في إجازة نصف السنة؟ سيقولون: «ولكننا نحن نعمل يا أبي»، فليرسلوها لي إذن مع أحد، فليرسلوها لي ولو في طرد بريد! لتُقِيم معي هنا أثناء الإجازة، هي تريد ذلك.. أنا متأكد.

- أتريد لطفلة أن تقضي إجازتها في دار مسنين؟ حقًّا يا أبي!

- هي تريد ذلك، أنا متأكد.

- هبها تريد، هل تسمح الدار؟

- اتركوا هذا لي، فقط هاتوها.

حفيدتي الجميلة

لا أدري لماذا لا تسمح الدار بأن تأتي لتقيمي معي، قوانين ولوائح! ما أهمية القوانين واللوائح؟ هم لا يريدون أن تأتي إليّ، وأهلك لا يريدونني أن أزورك، أنا أعلم هذا جيدًا، ماذا يضيرهم لو نلعب معًا؟

على كل حال سامحهم الله.

وردتي

أنا أقضي وقتي بالنظر إليك، والكلام مع صورتك، أنت أكثر حكمة منهم كلهم، الوحيدة التي تفهمني، أنت تلغين المسافة بيني وبين الأشياء، أستطيع الوصول لكل شيء بك، تناولينني ما أريد، أو تغنينني عن كل ما يريده الناس، بمجرد وجودك معي، يصير معي كل شيء؛ لأني لا أريد شيئًا، لا أريد إلا وجودك معي، بضحكتك العابثة الحنون، بالحب الذي يطل من عينيك كأنك أمّ.

أنت أمي يا حفيدتي الرائعة، الشمس الشموسة المشمسة، مر أسبوعان ولم تأتِ، هل يعاقبوننا على حبنا؟

ساقاي اليوم تتحركان قليلاً، إني قادم إليك، سأستقل سيارة أجرة وأفاجئك بهدية أعدها لك منذ أيام.

أخشى فعل بقايا الشتاء، وأنا وحدي هنا ممنوع من الزيارة، جاء العقاب مضاعفًا من أبنائي ومن إدارة الدار بعد تصرفاتي المتهورة بالأمس، حتى ساقاي تعاقبانني؛ فقد تيبستا أكثر من كل مرة، وها هو البرد يحتشد في عظامهما ويتركز في الركبتين... آااااااه!

ولكن طيفك الأنيس الودود يدفئني، ضحكتك المشاغبة، عيونك الرءوم، كفك الصغيرة وهي تمارس الأمومة معي، أو وهي تعبث في لحيتي.

وردة،

أوحشتني كثيرًا، القلم لا يطاوعني، فأصابع يديّ متيبسة هذا الصباح. لكن قلبي على عهده يحبك، بكل ما في شيخوختي من ضياع، بكل ما فيك من صبا وجمال وطفولة فرحة، أنا في انتظار زيارتك، ولسوف تأتين، قريبًا جدًا ستأتين، لن يستمر عقابنا إلى الأبد.

هو في انتظارها، دون أن يقول شيئًا هو في انتظارها، يصحو كل صباح، يغتسل، وبصعوبة شديدة يحلق ذقنه، يرتدي ملابس استقبال الزوار، يقضي النهار كله في البهو، عيناه على الباب، وفي الليل ينحني على ما تبقى من ورق، وبأصابع مبتسمة يكتب

حفيدتي الجميلة

 

......................................

خطاباته لا تصل، أحيانًا ينساها موظف الدار، وأحيانًا ينسى هو نفسه أن يرسلها، وعلى كل حال وردة في الثالثة من عمرها.

منذ أسبوعين وهو ينتظر، اتصل هاتفيًا أكثر من مرة، وفي المرة التي ردوا عليه فيها قالوا: «وردة مريضة، لا تقلق، مجرد برد، هي نائمة، ستكلمك فيما بعد... ».

وهو ينتظر، يكاد قلبه يتيبس لولا حبها، يبقيه على قيد الحياة، يبقيه في انتظارها، يبقيه إنسانًا.