شعرت بالغباء وهي تستمع لمشغلها.. لم يلف ويناور طويلاً.. أخبرها أن ملف ترشيحها هو الأفضل.. وقال إن مكتبها بانتظارها من الغد، إن شاءت.. واقترح عليها مناقشة بعض حيثيات التوظيف.. بدا مترددًا وهو يتساءل إن كانت سترغب دائمًا في العمل في الشركة إن علمت بالتفاصيل التي لم تذكر في عرض الخدمة.
لم تكن تتوقع أن تكون هي من يبث رأيه في حيثيات مقابلة التشغيل.. لم تعتد على هذا الوضع في بلدها.
كانت تجلس على طرف المقعد، يداها مشبوكتان على تنورتها الصوفية الجديدة، وظهرها مستقيم كالخشبة.. تنظر بذهول لرئيس شركة الخدمات الإلكترونية التي تأمل في العمل فيها.. وتتنفس بصعوبة.
كل شيء جديد عليها في هذه البلاد.. العامان اللذان قضتهما في المنزل لم يزيلا دهشتها البالغة أمام طريقة تفكير الشعب الذي وجدت نفسها تعيش بين أحضانه.. من يصدق أنها منذ ثلاث سنوات كانت تعتصم مع عشرات الخريجين في العاصمة الرباط، تطالب بوظيفة صغيرة في أي مؤسسة حكومية تكفل لها راتبًا تصرف منه على نفسها وأهلها؟ لم تكن تحلم بأكثر من أجرة شهرية ثابتة تحفظ ماء وجهها وتثبت للآخرين قبل أن تثبت لنفسها أنها لم تضيع هباء كل تلك السنوات التي قضتها على مقاعد الدراسة!
“ستكونين مطالبة بأداء ساعات إضافية أغلب أيام الأسبوع.. ولن أعدك شيئًا بخصوص العطل.. العمل كثير، وسمعة الشركة قائمة على نجاحها في الوفاء بجميع التزاماتها في الآجال المحددة.. ما رأيك؟”
ابتسمت.. لطف الرئيس البالغ، واحتفاؤه بها يربكها..
“لا يزعجني الأمر” ردت قبل أن تفكر.. ثم تذكرت الأولاد.. دوامها يوافق دوام المدرسة.. ولكن الساعات الإضافية لا تناسبها.. من سيبقى معهم في البيت؟ ماذا سيقول والدهم؟ وكيف تتصرف أثناء العطل؟
“نشكّل فريقًا متلاحمًا هنا.. عملنا يعتمد على ثقتنا ببعض وعلى تعاوننا.. لا مكان لعلاقات حميمة هنا.. تفهمين ما أقصد.. ولا لخصومات شخصية.. بإمكان كل منا أن يفعل ما يشاء... خارج الشركة”.
هزت رأسها بشرود.. مشكلة الأولاد تزعجها.. لن يوافق زوجها على هذه الوظيفة.
تنهدت، وانتابها ضيق شديد.. تحمست للوظيفة.. عرض الشركة مغر، وإمكانيات تحقيق شيء ما فيها كثيرة، ومبناها غير بعيد عن سكناها.. لكن العمل خارج ساعات الدوام...
“عفوا...” قاطعته وقلبها يدق.
“نعم.. تكلمي رجاء...”.
أخذت نفسًا عميقًا وفكرت بسرعة في أمور كثيرة ومتداخلة.. أتى بها زوجها إلى فرنسا لأنه احتاج إلى امرأة ترعى أولاده.. توفيت زوجته الأولى في حادث مؤسف، ولم يرغب بأن يحرم أطفاله من دفء وحضور امراة تملأ بعضًا من الفراغ الذي تركه رحيل والدتهم.
جاء إلى المغرب يبحث عن زوجة بمواصفات محددة.. شابة، متعلمة، ربة بيت، خبيرة بشؤون رعاية أطفال صغار.
عرفها بعض الأقارب عليه، ونالت استحسانه.. ترددت بعض الوقت في الارتباط به.. تحمل شهادة هندسة، وتود أن تعمل وتحقق شيئًا قبل أن تستقر في بيت الزوجية.. قال لها إنه لن يمانع إن وجدت وظيفة في فرنسا.. زوجته الأولى كانت تعمل أيضًا.. ولم يكن ذلك يعوقها عن رعاية أطفالها.
شجعتها سعة صدره على الارتباط به.. ولم يخيب ظنها.
“نعم...؟” سأل رئيس الشركة، وعضت شفتها وهي تحاول أن تجد الكلمات المناسبة لشرح المشكلة: “بخصوص العمل خارج أوقات الدوام... مبدئيًّا أنا لا أمانع.. لا أمانع أبدًا.. ولكن... لديّ أطفال صغار.. لا يمكنني أن أتركهم وحدهم.. والدهم يعمل حتى ساعات متأخرة...”.
نظرت إليه بيأس.. سنوات وهي تحلم بوظيفة مثل هذه، توفر لها إمكانيات تطوير نفسها وإبراز معارفها وإنجاز شيء تفخر به.. هل تضيع فرصتها بهذه البساطة؟ الصغار حق عليها.. أتت لهذه البلاد لرعايتهم.. ولكن... ولكن... عامان وهي تفكر فيهم وفي نفسها..
“ليست ثمة مشكلة.. يمكن أن تطلبي خدمات جليسة أطفال!”.
“نعم” ردت بدون حماس.. أين تجد جليسة أطفال؟ الأمر يتطلب وقتًا لا تملكه، وعناء، وربما ميزانية كبيرة
“تفضلي.. هذه أوراق ابنتي.. شهادات حسن سيرة ورسائل توصية من العائلات التي عملت لديها.. تعول نفسها عبر العمل كجليسة أطفال.. اتصلي بها إن شئت”.
تفاجأت.
أخذت الملف، ووقف الرئيس يودعها.. أكد أنه يتمنى فعلاً أن تنضم لموظفيه.
غادرت المكتب وهي تحلق فوق أرضية من الغمام.. تعمل في شركته، وتوظف ابنته!
ما أغرب هؤلاء الناس!