سخرية الزمن

 كان «رمضانًا» لا ينسى وجد والدي عملاً يدر عليه مالاً وفيرًا. أتى لنا بكل ما لذ وطاب من الأكل. كعك، وحلوى، ومكسرات، وفواكه جافة وطرية، ولحوم. لم يسبق لبيتنا أن عرف كل تلك البحبوحة. كنا صغارًا، نرقص ونمد أيدينا للأكياس الممتلئة التي ينوء بحملها. وكانت أمي تنهرنا والفرح ينط من عينيها. وجدتي تبسمل في صحن الدار ولا تقول شيئًا. ولا تتناول شيئًا.

لم نكن نعرف شيئًا عن عمل والدي. يخرج بعد السحور، ولا نراه إلا ساعة الإفطار. يأتينا بالطيبات، ويفطر معنا، ثم يغيب. جدتي لا تكاد تكلمه. وعندما يسألها شيئًا لا ترد عليه. ونحن نلهو حوله ونضحك ونتفاخر أمام أطفال حينا الشعبي الفقير بكل ما يأتينا به.

لم نكن قد تعودنا على ذلك.

عيشتنا كانت متواضعة، قبل رمضان الخير ذاك، وأحوالنا كانت بئيسة كأحوال كل سكان الحي.

ذات ظهيرة تشاجر أحد إخوتي الصغار مع طفل الجيران، وسب الولد والدي، واستهزأ من جريه وراء أموال «الأجانب». تدخلت وسمعت من الصبية كلامًا خطيرًا عن مهنة والدي الحقيقية. ««يرتمي تحت أقدام الأجانب، ويتركهم يصفعونه، ويبصقون عليه ويمزقون ثيابه...». دارت الدنيا من حولي. هرعت إلى أمي أردد على مسامعها ما وصلني. أشاحت بوجهها بغضب، وأمرتني بأن ألزم حدودي. ونطقت جدتي من صحن الدار.. «دعيه. كان أولى بك أن تعقلي أباه...».

كان مدفع الإفطار على وشك أن يدوي. سلمت على والدي بقهر والأسئلة تتزاحم في عيني. لم ألتفت لما أتى به من خيرات. انزويت بعيدًا وانهمكت في التفكير في الطريقة التي سأناقش بها الموضوع معه. ما مهنته بالضبط؟ ما معنى كلام جدتي المليء بالألغاز؟

رحل كعادته سريعًا. قبل أن أكلمه.

بقيت طيلة الليل أفكر. أنا أكبر أبنائه. تخطيت الثالثة عشرة، وصار يحق لي أن أعرف ما يجري.

قبّلت يد جدتي في الفجر، وجلست قربها وهي تسبّح. طال صمتي وربتت على كتفي. «اذهب لتنام يا ولدي. ليس لديَّ ما أقوله لك».

كدت أتنفس الصعداء. لم أشأ أن أسمع منها ما يضير والدي.

مضت فترة وأنا أحاول عبثًا أن أتخلص من الهواجس التي زرعها كلام أطفال الحي في نفسي. لم أستطع. صرت أطيل النظر لوالدي بحثًا عن آثار ضرب، بقايا بُصاق، مخلفات تعنيف، ولا أرى غير وجه ملفوح بالشمس، وشعر مرتب بعناية، أطول مما عهدت فيه، لكن أنظف وأكثر كثافة، وملابس لائقة بعضها جديد وجميل. ما الذي سيدفع رجلاً مثله لإهانة نفسه كما يدّعي الناس؟ لديه حظيرة الدواب التي يعتني بها في العادة. ولديه ذراعاه. والدي رجل قوي البنيان، ضخم الجثة، ولن يصعب عليه أن يقوم بعمل شاق...

كثرت أسئلتي وعزمت على أن أتحقق مما يحدث بنفسي.

لم يكن الأمر صعبًا. تبعته حال خروجه، وقطعنا دروب الحي الضيقة في وقت قياسي. خرجنا إلى إحدى ساحات المدينة الجديدة، واتجه أبي إلى حافلة كبيرة وصعد إليها بخفة. وبقيت أنظر بحيرة للكلمات الأجنبية المخطوطة على جنبها.

تحركت الحافلة وتعلقت بها من الخلف. خرجنا إلى الصحراء الممتدة خلف أسوار المدينة القديمة. اجتزنا بوابة استوديوهات السينما، وتوقفت الحافلة قرب صف من سيارات النقل المماثلة. قفزت من مكاني وانخرطت في المشي وسط الخلق الكثير الذي كان يملأ الساحة.

أظلمت الدنيا، ولم يكترث بي أحد. بحثت عن أبي. ولمحته يتجه مع آخرين نحو خيمة كبيرة.

تخفيت، وبقيت أرقب ما يحدث.

كاميرا وأضواء وأبي مع آخرين يرتدون ملابس جنود ويركبون أحصنة ويروحون ويجيئون حيث يشار لهم. أجانب يأمرون البعض بأن يسقط، والبعض الآخر بأن يتعارك، ومغاربة يترجمون ما يقال، وأبي يجري بحصانه، ويقع أرضًا، ويقوم، ويدفعه آخر. لم أكن وقتها أعرف ما تعنيه كلمة كومبارس. لكنني فهمت أن والدي يؤدي حركات مهينة ويتحرك بأوامر الأجانب ويتمرغ في التراب من أجل أن يأتينا بالأكل الذي نتفاخر به أمام أهل الحي.

خجلت منه.

لم أقل شيئًا. تدبرت عودتي للبيت وبكيت طويلاً طيلة الطريق. أطفال الحي لم يكونوا يكذبون.

صممت على ألا أذوق الطعام الذي يأتي به بعد ذلك. أتذكر نظرته الكسيرة إليَّ. فطن إلى أنني اكتشفت أمره. لكنه لم يدافع عن نفسه. ولم يقل لي شيئًا.

أتساءل الآن: ماذا ستكون ردة فعله لو قُدّر له أن يعيش ويرى كيف انتهى بي الأمر مسؤولاً عن توفير أطقم الكومبارس لجهات الإنتاج الأجنبية؟

وجه آخر من وجوه سخرية القدر.