كيس الحلوى

«لن نستطيع أن نحتفظ به، أتفهمين؟ لا نريد مشاكل...»

أم العريس تنظر إلى ابن أختي ذي السنوات الخمس.. يجلس غير بعيد عنَّا، على حافة حوض شجرة الليمون الباسقة في فناء الدار، يتذوق حبات كعك مزين بسكاكر ملونة، وفواكه جافة، ويقدم بين الفينة والأخرى بعضا منها إلى الهر الجاثم عند قدميه.

أشاحت رحمة بوجهها الدامع، وتدخلت أمي: «ولكن يا حاجة، الولد صغير، وهو لم يفترق عن أمه منذ ولادته...»!

«أعرف، أعرف...» ردت صاحبة اللحاف السماوي المطرز، «لكن هذا شرطنا.. الولد يتيم.. أي نعم.. لكنه ليس ذنبنا.. إنها مشيئة الله..!».

«لن نستطيع أن نعوضه عن أمه...» قالت والدتي، وتنهدت الحاجة، وأعلنت: «إنه شرطنا... وأنتم أحرار في أن تقبلوه أم لا...».

بدت على وشك التأهب للرحيل.. وسمعت رحمة تتنفس الصعداء.

«ما بالك يا حاجة؟ نحن نأخذ ونعطي في الكلام، لن نجد أنسب من الأستاذ ابنك لرحمة...».

أمي تردد كلام والدي.. نحن أربع بنات.. الوحيدة فينا التي تزوجت فقدت زوجها قبل أن تضع مولودها.. والدي تعب، وهمنا ينغص عليه سنوات شيخوخته.

«إذن على بركة الله.. لن تندموا.. لن ينقص رحمة شيء... »

أعلم أكثر من أي مخلوق أن أختي لا ترغب في الارتباط بأحد، تريد فقط أن تعيش بستر وأمان مع ولدها، لكن...

 لعن الله الفقر!

ضحك ابنها وهو يلهو مع القط.. والتفتت إليه، تراجع للوراء مبعدًا حبة حلوى عن قطه، ومال كيس الورق الملون الذي يحوي ما تبقى من الكعك وسقط في الحوض، وندت عن الصغير صيحة غضب، وجثا يجمع الحبات، وجثت أمه قربه.

«لم يعد الولد صغيرًا...»، عادت الحاجة تقول «عمره خمس سنوات، أليس كذلك؟ صار رجلاً، يجب أن يتعلم كيف يعتمد على نفسه...

 «مازال طفلاً...» احتجت أمي.

«سيفسد إن دلعتموه.. تربية الأولاد ليست كتربية البنات.. اسأليني...»

رفعت ذقنها بفخر.. ونفرت أكثر من هذه السيدة التي لا تراعي شعور أحد.

ظلت خلفة أمي وصمة عار على جبينها.. أربع بنات، لا فائدة ترجى منهن.. كبراهن أرملة، والتي تليها بكماء، والثالثة لم تفلح في الدراسة، والصغرى تعيش في دنيا ثانية، وتعاني من مرض التوحد.

رحمة تعيد حبات الكعك لكيس الورق الملون، وتضحك مع ابنها، وتبكي..

 قدمت له الحاجة الكيس عندما دخلت، وفرح به كثيرًا، لو يدري...!

«تعالي يا رحمة، ودعي الولد يكبر.. تعالي، أريد أن أسمع الموافقة منك...»، نادتها الحاجة، ورفعت رحمة يديها إلى وجهها ومسحت عينيها الغارقتين في الدموع.. تبعها ابنها، ولكزتني أمي لأشغله.

«ما شاء الله عليك.. قمر والله.. لا ألوم ابني لأنه أغرم بك، ولكن... »،

تنهدت بشكل مبالغ فيه، وواصلت مداعبة الصغير الذي أراد أن يريني كل أشكال الحلوى التي في الكيس، وأنا أتابع ما يدور أمامي بانتباه.

الجمال ليس كل شيء.. في الزواج أمور أخرى.. هناك الحسب والنسب والأخلاق والحالة المادية والتجارب السابقة وأشياء من هذا القبيل. وأنا كنت متخوفة، ولا أزال.. «أنت جربت الدنيا وأنجبت وأسرتك تعاني من مشاكل كثيرة وأخواتك... أعانهن الله»!

تنهيدة ثانية أثارت غيظي.. كيف تسكت أمي؟ ورحمة؟

«بالمناسبة، سنناقش التفاصيل فيما بعد ولكن، بالنظر لحال أخواتك، لا أرى من اللازم أن يحضرن جميعا حفل الزفاف، لا داعي لإشعال فتيل القيل والقال.. أقصد...»

نظرت لأختي، ولأمي.. لم تنبسا بحرف.

«على بركة الله إذن.. أنتما تفهمانني .. ألسـنة الناس سامة، والبنتان لا تستحقان الأذى.. يا الله ! تأخر الوقت.. سنتفق على كل شيء قريبًا.. اسنديني يا ابنتي لأقوم...»

نهضت.. وقامت أمي ورحمة ترافقانها إلى الباب.. وانفلت الولد من بين يدي وجرى خلف أمه.

جثوت أرضًا أجمع الحلوى التي سقطت منه.. حلوى غالية.. قدمتها له المرأة التي تتأهب لانتزاع أمه منه.

وضعت الكيس على حافة الحوض، وتخلصت من بقايا الكعك العالقة بأصابعي.. فتحت فمي وأغلقته.

ارتحت لأنني بكماء.. ليس عليَّ أن أقول شيئًا.. ليس لدي ما أقوله..

رفعت عيني للسماء.. لمحت في نافذة الغرفة العلوية خيال أختي الصغيرة.

تجلس بالساعات هناك، تحملق في الفراغ، ولا تقول هي الأخرى شيئًا.

أغلق باب الدار بحدة، وهرعت رحمة باكية إلى المطبخ، وفي إثرها أمي.

الاثنتان تبكيان، والصغير يقبل مشرق الوجه نحوي ويسأل عن كيس الحلوى.