جوزيف عطية «شهرة» أم موهبة؟

جوزيف عطية «شهرة» أم موهبة؟

وأخيراً هدأ جوزيف واستكان، وبدأ يعرف ضرورة وأهمية المغنى والابتعاد عن التظاهر الغنائي الذي جعله كمن يجلس على أكتاف المؤيّدين الذين يردّدون معه بعضاً ممّا خاله «أغنية». وهي عبارة عن أنشودة لها تفسيرات قد تكون غارقة في المحلية اللبنانية... هو الذي استقبل في برنامج «ستار أكاديمي» استقبالاً جيداً، وكان العمل جاداً على صناعة نجوميته من القيّمين على البرنامج لأسباب عدّة، أهمّها ضرورة صناعة نجم لبناني بعد منح اللقب لعدّة دول عربية... ساعد جوزيف الفكرة بموهبته ومواكبته وإمكانيته على التقدّم. بعد خروجه من البرنامج، بدأ رحلته الخاصة واستطاع أن يسير نحو النجومية متّكئاً على عدّة عناصر مهمة في هذا المجال... فالإطلالة جيدة والصوت تنقصه خبرة المسرح، وهذه مسألة يكتسبها المطربون من الغناء مع الفرق الموسيقية، ومن خلال تراكم وفهم كيفيّة هدر الطاقة الصوتية... فكثير من المغنين يستنزفون طاقاتهم في الدقائق الأولى من الحفل، ممّا يوقعهم في فخ النشاز، لعدم قدرتهم على مواكبة النوتات العالية التي تصعد فوق درجة (الدو) جواب، وهي درجة عادة ما تكون في وسط الصوت القادر الذي يستطيع أن يصعد فوق هذه الدرجة (صول) و(فا) أيضاً للمحترفين... ويبقى للمميّزين الوصول إلى درجة جواب الجواب وهو (الدو) الأعلى، وهي طبقة وصل إليها وديع الصافي أو صباح فخري في عمر الشباب وقلّة من جيل الشباب الحالي، إذ تنزل طبقات الصوت بفعل الزمن وقلّة الخبرة.

نعود إلى جوزيف عطية وهو صوت قادر كما أسلفنا، ويتمتّع بنبرة جبلية لا بأس بها، أهّلته لتقديم اللون اللبناني بشقّيه (الدبكة) و(التعبوي) كما في أغنية «لبنان رح يرجع». لكن إنتاج جوزيف عطية في الآونة الأخيرة جعله مطرباً أكثر ارتباطاً بمفهوم الأغنية، واقترب أكثر من الرسالة الموسيقية التي يشارك الصوت بها، لتصبح أقرب إلى الجمهور الذي اعتاد أن تقوده الكلمات مخفّفة عنه الخيال، فعلى الشاعر انتقاء الكلام والمغنّي تأدية اللحن وبذلك تصل الأغنية إلى مرادها.

استوقفتني أغنيتان لعطية ودفعتا بي للكتابة عن هذا الصوت... أغنيته «تعب الشوق» وهي لحن تركي (ملبنن)، ولعلّ ذكر اسم الملحن التركي كان في مكانه، فلم يُنسب اللحن كما جرت العادة لأحد الملحنين الذين يحترفون سرقة الألحان التركية ونسبها لأنفسهم... لعلّ الإشكالية الوحيدة تظهر في تصوير جوزيف في اللقطة الأولى من «الفيديو كليب» والتي تظهره كشخصية مهمة محاطة باهتمام الصحافة وبحماية المرافقين، وهو مشهد مغرٍ للفنانين الذين يرغبون بممارسته في حياتهم اليومية... تبدو الصورة خالية من التواضع، ويبدو جوزيف «متعجرفاً» يعيش شخصية

لا تشبهه في الحقيقة... فيختلط عليه الأمر بين مشاهد سينما عالقة في الذاكرة وبين شهرة المطرب الذي يرمي بنظراته الحارقة والخارقة للمراهقات اللواتي لا يحتملن نظرة منه، ويسقطن في غرامه حسب القصة... هذه المبالغات تسهّل على مخرجي «الفيديو كليب» بيع سلعتهم إلى المطربين، ولو قمنا بجولة في مجموعة من «الفيديوهات»، لوجدنا الكثير منها ميّالاً لنزعة الانتفاخ والتفاخر المجاني... سير الأغنية يبقى من خلال الأداء الذي يحمل صوتاً شاباً، بإمكانية جيدة لولا سقوطه في (قفلة) الجملة الغنائية، سيما وأن اللحن التركي يحتاج إلى إحساس مدجّن، وإلى تركيز على تقنية الغناء التركي المختلفة من حيث مخارج الحروف واستخدامات الطبقة الصوتية، والاهتمام بكيفيّة الانتهاء واستخدام العُرب الصوتية في التنقّلات بين الطبقات. في أغنيته «موهوم»  يقول مطلعها: «دوّر بقلوب الناس عا قلب ما خانو الهوى..

بهذه التجربة تقترب أغنية عطية من الطريق الصحيح، فالأغنية تملك كل المواصفات التي تكرّس فكرة الموسيقى وأهدافها النبيلة... فصوت الكمنجات المؤتمن على الخلفية حاضر بنبل، وضربات آلة البزق، تبدو جذّابة بحوارها نقرات البيانو، ضمن المقامات القريبة من الأذن العربية والشرق أوسطية عموماً وغالباً ما تكون من مقام نهوند وعجم. تسير النغمات إلى جانب الإيقاع الشرقي الخفيف بلياقة مزهرة، مستفيداً جوزيف من اللعب في منطقة سبقه إليها وائل كفوري وفضل شاكر ومروان خوري، إلا أنهم جميعاً سجّلوا نقاطاً في مرمى الذوق، والتمسّك بالأصول الغنائية.

الألبوم الغنائي يحتوي على عشر أغانٍ أو أكثر، فلتكن «للسميعة» أغنيتان من المجموع. وهذا يرضي شرائح كبيرة... والباقي ندعه للهواء، فالهواء كفيل بتنقية الطبيعة من الشوائب مع اختلاف الزمان والمكان.

 

الصوت العائد من الموت... ذكرى

يأسرني صوت ذكرى أثناء عمليــــة التفتيـش عن أغنية ما في محرّكات البحث العنكبوتية... تطالعني صورة ذكرى المطربة الراحلة، تسحب يديّ إلى المفاتيح التي تعيد صوتها إلى الحياة. فبالرغم من ثقتي بمقولة «الحي أبقى من الميت»، إلا أنني أقع في لُبس صرف الأفكار! صوت ذكرى الميتة حي، وأصوات الكثير من الأحياء أموات. تغنّي اليوم كما الأمس، كما غداً، في أركان الروح، في ثنايا الحياة، تبعث الحب في العروق، وتنفض عن حواسي الملل. أي صوت هذا لم يكتب له أن يعيش صورة، ليعيش ذكرى؟

الاستماع إلى الأصوات التي غادرت الحياة تعيدنا إلى زمان الأغنية... إلى الظروف المحيطة... إلى لون الفستان وتصفيف الشعر... إلى تأمّل المنديل بيد أم كلثوم، إلى (نحنحة) عبد الوهاب، إلى أناقة عبد الحليم، إلى غنج سعاد حسني، إلى عبقرية بليغ حمدي... الأسماء كثيرة والنهاية مختلفة.

ذكرى تنهي مسيرتها مرغمة، كمن أنزلت عن المسرح قبل انتهاء الحفل... كنا في بداية الاسترسال، في بداية تلمّس النغمة، في بداية الصعود إلى أعلى، إلى وهم العاطفة التي نبحث عنها في قصائدنا الشعرية، في كلامنا اليومي، نركض خلف الخبز والحب، وما تبقّى لنا للحياة...

أسمعها «شاهرة» صوتها بوجه الرمل المنتشر فوق القلوب القاسية، حين حملت صوتها وجاءت من بلد الشابي، الذي علّم «التوانسة» أنه (إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القدر) .

غريبة هذه الصدفة أن تصرّ ذكرى على الحياة رغم غيابها... صوتها يسكن المسارح التي غنّت فوقها ليلة... صوتها أرغم اللحن أن يرتقي إلى المراتب العليا كي يمرّ في حنجرتها... خليجية ذكرى إن غنّت الشعر الخليجي، ومصرية إن شربت من النيل، وعربية وعالمية في زمان انطوائنا على ذاتنا.

أستمع إليها وأجرّب أن أدخل إلى نبرة متطايرة من أعماق روحها... تهرب مني كالدخان، أراها.. لا ألمسها.. أعرفها، أشفق على الذين شاركوها الغناء... مساكين، أعطتهم السلاح ووقفت مجرّدة إلا من صوتها، وطلبت إليهم أن يغنّوا، انتظرت... مفسحة المجال لهم لكي يأخذوا نصيباً من التصفيق من نشوة المسرح، من الورود المرشوشة على المسرح... لكنها سرعان ما تكسب الجولة... عمالقة غنّوا، جلسوا إلى جلستها، أرغمتهم على الصعود... على التمرّد على اللحن الأصلي لكنهم بشر يضعفون، يهابون المجد.

سنوات مرّت على رحيل ذكرى أُنكر موت صوتها، وسأستمع إلى أغنياتها كما في أول مرّة، «وحياتي عندك»، «علمني كيف»، «بحلم بلقاك»، «الجرح»، «الأسامي» و«يا مشغل التفكير».