الكتابة... هي نزيفٌ دائم

سلمى الجابري

أتلذذ كثيرًا بحيرتي، بكل هذا التخبط والقلق الذي أستنزفه، بالبحث عن كلمة أبني عليها مزاجيتي، فزعي، شحوبي، خوفي، جنوني، تمردي، ثورتي، غيرتي، انتظاري، انكساري، وانتصاري، حتى تجسّد الشعور الذي لم أستطع التصريح به أمام الملأ، لكن هذه الكلمة تفعل ذلك نيابة عن صوتي وعني، فالكتابة صوتٌ لا يمكن إخراسه بأي شكلٍ كان.

الكتابة كالقضيةِ التي لا تنتهي، إلا بموتك، فهي نزيفٌ دائم، استمرارٌ لحيوات لم نكن لندركها لو لم نكتبها.

الصخب الذي يضطرب بين حواف الورق وهوامشه، بين الكلمات العالقة في الشفاه وفي المخيلة، هو كل ما يحتاجه الكاتب حتى يتصالح مع اللغة على هيئةِ نصٍ ساحر.

ثمة من يكتب وهو مغيّب عن الوجود، وثمة من يكتب وهو يحتضر، والبعض الآخر لا تجده يكتب إلا من أجل التجمهر والهراء. وحده من يكتب من أجل الحياة والموت، هو من يسعى للخلود بأكثر الطرق أناقة.

بعض العبارات التي نكتبها بفعلِ الجرح، تصلح لأن تكون عنوانًا لكتابٍ ما، لحكايات مؤقتة، لحدثٍ نرتب تفاصيله بعناية دقيقة، أو حتى مطلع لأغنية ناقصة، بعض العبارات تختصرنا بشكل كامل دون أن ننبس ببنت شفة، وهذا الأمر ملهم بقدرِ خطورته.

لذا كان الزمن العاطفيّ من أكثر الأزمنة التي نُدهس تحتها ونُسحق باسم الحُب، باسم الوفاء، وباسم الأبدية، المتوقفة عليهم، ولذلك فقط ذهبت كل اجتهاداتنا في محاولة نسيانهم سدى، لم يتبق لنا سوى الصمت المطبق، المشاعر المحمومة، والذكريات الباكية. لم يكن الحل في الانشطار العشقي عنهم فحسب، بل بنزعهم من دفاترنا، رسائلنا، ليالينا، وذاكرتنا، لذلك كانت وستبقى هذه المهمة الانتحارية والفدائية مستحيلة.

نحنُ أضعف بكثير من تلك الثورة العظيمة المقامة ضدهم، وأنا على يقين بأننا سنتجاوزهم ذات يوم بغرابة ونسيان، فقط علينا قبلها أن نؤمن برحيلهم، وأن نؤمن بأن من غاب لن يعود، لذلك وقوفنا عند عتبة الأيام القديمة يعتبر خطيئة، وها نحنُ بكل تحدٍ سنعلن عليهم الهجرة بغيرِ عودة، فقط علينا أن نتعلم ثقافة الغياب كيف تكون؛ لنشرع في تطبيقها، لذلك كان مكوثنا تحت اللاوقت ذا فائدة علينا..