بيوت من زجاج

أميمة عبد العزيز زاهد
غريبة تلك العينة من البشر، وغريبة مجالسهم التي يكثر فيها القيل والقال، فما زالوا يقولون وما زالوا يتحدثون في أعراض الناس وطرح التوقعات بالأحداث الجارية والمقبلة، عينة فقدوا الشعور فمات الإحساس لديهم، كل همهم هو النيل من الآخرين وإيذاؤهم، وما ذلك إلا لموت ضمائرهم وسواد قلوبهم. فالمسلم هو من سلم الناس من يده ولسانه، وقد واجه الإسلام الشائعات بالعديد من التشريعات التي تعمل على عدم خلق بيئة ترتع فيها الأقاويل، فأمرنا بعدم الحديث فيما لا يعنينا، وحرم علينا الكذب والغيبة والنميمة، وحثنا على الصمت وحبب إلينا الستر وحسن الظن. ولو وقفنا أمام بديع صنع الخالق لهذا العضو الصغير لبهرنا، ونحن نراه يخرج أجمل وأحلى الكلمات، وفي نفس الوقت أشنعها وأقبحها فينطلق اللسان فيفري في اللحوم بدون ضوابط، أو خوف قال ابن القيم «من العجب أن الناس تتحرز من أكل الحرام، ولكنها تأكل لحوم البشر، ورب كلام جوابه السكوت ورب سكوت خير من كلام». نسي هؤلاء أن للعباد حقوقاً قد تنتهك بكلمة، فذكر عيوب الغير هتك لستر الله على عبده، نسوا أن من ستر مسلماً ستره الله، ومن تتبع عورته تتبع الله عورته وفضحه، وهو في عقر داره… فمن أراد أن يشتري ستر الله ورحمته فليبتعد عن الكلام في كل ما لا يخصه، ولا يعنيه وليقل خيراً أو ليصمت… وليبتعد عن مجالس القيل والقال وتزييف الحقائق وسوء الظن فأمسك عليك لسانك، فإلى متى تتجاهل أو تتغافل عن خطورة هذا اللسان مهما كان قصدك وعلمك، فمن كثر كلامه كثر سقطه، قال يحيى بن معاذ ليكن حظ المؤمن منك أن لا تضره إن لم تنفعه، وأن لا تغمه إن لم تسره، وأن لا تذمه إن لم تمدحه. أما أنت أيها المظلوم فإن ربك بالمرصاد، في يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، فاحسب للأمر حسابه واطمئن وتيقن بأن كل من تكلم عليك قد سُجل كلامه كلمة بكلمة وحرفاً بحرف حتى ما نسيته وسقط من ذاكرتك سهواً فلن يضيع عند رب العباد، فكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم، ولكن مع الأسف منذ متى كان من يرمي بيوت الناس بالحجارة يفكر بذلك فهو يظن أن بيته من زجاجه غير قابل للكسر، أو لعله زجاج زاهي الألوان مصقول لا يمكن خدشه، أو نسي أن زجاجه من الأصل مكسور، وأعود وأذكر نفسي قبل أن أتكلم بما يضيق به صدري ولا ينطق به لساني بأنني أحوج ما أكون للحسنات، فالجزاء من جنس العمل والدرجات مختلفة، فضياع الحسنات نتيجة أكيدة لفلتات اللسان، ولأحفظ حسناتي فأنا أحوج ما أكون إليها وأعود وأتذكر قول لقمان لابنه: «يابني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك» وقال: «ما ندمت على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مراراً»