ثمة مآرب أخرى

سلمى الجابري
| ثمة مآرب أخرى نسعى للعيش فيها، خلف كل علاقة تتقاطع معها أقدارنا بغتةً، وتلك المآرب هي التي تبقينا على قيد الحب، حتى من بعدِ رحيلهم ونسيانهم لنا. فعندما تتعاظم مشاعرنا بسببهم وتترمّد، فهذا لا يعني إلا أننا ذهبنا إليهم بحب كامل، بعطاء لا ينضب، بصبرٍ لا يقهر، وبحياةٍ لا تزهر ولاتصفّر إلا لهم، ثمة من يسعى أن يبقى حاضراً بين كلمة وأخرى، تعبر بين أحاديثهم؛ حتى لا تتعرض لحظاته للنسيان، ثمة من يصحو ويغفو وهو يشهق باسمهم؛ حتى لا يموت من الوحدة، ثمة من يحاول ولو عبثاً أن يملأ فراغ قلوبهم بالكثير من ذكرياته، وتفاصيله الحميمة فقط؛ حتى يصبح عصياً على الرحيل، ثمة من يجيد القفز والركض بين أنفاس اللهفة؛ حتى يسابق الغياب بحضورٍ طاعن، ثمة من يحاول التحليق بخفة كـبالونٍ لا يلامس الأرض، إلا عندما يتعرض للثقب؛ محاولاً أن لا يبقى لحبه أي أثر يدل على فجيعته الآسنة. كلما اقتربنا من حقيقة البقاء بجوارحهم، أخافتنا فكرة الخلود، تلك الفكرة التي لا تبرح إلا أن تتراءى أمامنا بقلقٍ وفزع، حيث لا يمكن أن يجتاحنا هزيع الغيرة، دون أن يترك بداخلنا أثراً، ذاك الأثر الذي يُبكينا بصمته، ويرهقنا بكبريائه، إذاً كيف سنظل في مخيلتهم كصورة لا تشيخ؟ وكحب لا يخمد؟ ونحن نتعرض كل لحظة لتصحّر المشاعر دون أن نشعر، ومن سيشعر بوطأة البقاء، سوى من مات في الحياة أكثر من مرّة؟ سوى من تجرعت إنسانيته الوهن ضعف عمره؟ ليس المهم أن نبقى حتى نعيش معهم طيلة عمرهم العاطفيّ، بل من المهم حقاً أن نبقى بجانبهم في أشد اللحظات بكاءً، وفي أكثر الأوقات احتياجاً، كقبسٍ من دهشة. كل شخص منّا لا يعيش في هذه الحياة عبثاً، فنحن نعلم جيداً أن اللحظة التي تعبرنا لا تعود، واليوم الذي يرحل وهو ضاحك لا يعود، حتى لو بكينا من أجله، والحب الذي يصعد بنا نحو أقاصي الفرح، هو ذاته الذي يوصلنا إلى سدرة المنتهى، من المستحيل أن يبقَى كما هو، لذا سنتصادف يومياً مع المكلومين عاطفياً، ونحن نردد: كم كنا حمقى، فهذه الحياة ليست بحاجة للمزيد من حمقى الحب، بقدر ما هي تحتاج للكثير من التجاهل.