رأيته ما بين شهيقٍ وزفيرً

سلمى الجابري
أمعن النظر في البعيد، في أقصى الغياب الذي ابتلع كل حضورٍ كان مؤكداً. أمعن فيه وأنتفض وأتساءل: ماذا لو أن كل غائب يعود؟ ماذا لو تصالح الظلام مع ضوء وجودنا؟ ماذا لو أن هذه البسيطة أصبحت أقلّ تعقيداً ووجعاً؟ إنني أتفتت كالهشيم، أختنق في صيرورة اللحظة، أجيء بالذاكرة، وأذهب مع وفرة الحنين. ثمة غصة تؤلم هذا القلب المسكين. أنزوي، أزفر بشدّة، أحاول معانقة الفراغ، أترقب جوع النوارس للحياة، ثم أمضي.. أمضي دون وجهة تقيد أفكاري، كل هذه الطرقات لي، كل هذه الإنارات قد اعتادت على أن تراني يومياً. كل المقاهي، والواجهات قد حفظتني، حتى الوجوه.. هي ذات الوجوه التي أرى انعكاس بؤسي فيها باستمرار، إذن فلتخبرني بربك مما سأخاف أو أرتاب؟ لا شيء يخيف في هذه الحياة، سوى أن تظلّ كما أنت، وأنا ما عدت كما كنت. أعود لأرى الأشياء بنظرةٍ قديمة، قد أجدني أكثر حياة وخفة، قد أستعيدني من بين حطام الذاكرة، بأقلِ ضررٍ ممكن. أرفع رأسي لأتأمل حركة ذاك الغمام البعيد القريب ببطءٍ متناهٍ. أتأمل الفراغ الشاسع بين هذه الأرض وبين زرقة تلك السماء، وأحزن.. أحزن لأن الفراغ هو الذي يبعدنا عنهم، الفراغ الذي نملأه بهم، هو ذاته الذي يمتلئ من بعدهم بالوحشة. أضع يديّ على عيني، أحجب عني هذه الصور، ثم أشهق.. أشهق بشدة، فأشتمّ رائحة الحب، أشهق أكثر، فأراه.. أراه يقترب برغم العتمة التي أراها. يقترب ثم يتوقف حتى يبتسم. يمد يده الغارقة بعطرِ اللهفة، يمدها من وراءِ الأقدار، حتى يسرق لحظة من تسارع هذا الكون. يسرقها من أجلي، بل من أجلنا، ينتظر يدي، ينتظرها بنبلٍ، ولا يكفّ عن الابتسام. أراه بهذا المشهد العاطفي وأتلعثم. أسيرُ إليه بقلق. أشعر بارتعاشةِ الأرض من تحتِ قدمي. أخشى السقوط، لكني أستمر بالسير بقامةٍ ثابتة، أسير أكثر، فأراه يبتعد، أسير نحو العطر، نحو اليد، نحو الملامح المبتسمة، فتزداد ضبابية الصورة من حولي، أمعن أكثر، أحدق أكثر، أصرخ.. أصرخ باسمه، فيظل يبتسم، ثم أجدني أزفر، فينتهي هذا الحلم ببكاءٍ أبيض. ينتهي بحبٍ يتيم