طبق بارد

نجاة غفران

 

سبع سنوات مضت على رحيلهما، ولازال يتذكر، ويبكي.. سبع سنوات..

في كل مرة يفتح فيها عينيه في الصباح، يرى وجه ابنه الطفولي الباسم يتطلع إليه ويسأله، متى سيستيقظ ليأخذه إلى حديقة الألعاب، ويسمع همس زوجته وهي تنحني لتسحب الصغير وتقترح عليه أن يساعدها في تحضير فطيرة التفاح بانتظار أن ينهض والده.. فطيرة التفاح المقززة، مجرد التفكير يثير غثيانه..

تدمع عيناه وهو يتذكر ضحكاتهما البريئة..

رحلا...

سكير لعين دهسهما وهما يجتازان الطريق أمام العمارة؛ غافلاه في تلك الأمسية وخرجا ليشتريا تفاحًا وزبدًا لمفاجأته بالفطيرة التي كان يحب تناولها في الصباح.. وفي لحظة، .. سمع الصراخ والضوضاء وحركة الناس المريبة.. وأطل من النافذة.. وناداهما.. وانخلع قلبه..

سبع سنوات والجرح لازال غضًا.. والوجع شديدًا.. شديدًا..

وضع رأسه بين يديه وأجهش بالبكاء.. غير عابئ بصيحات النوارس الصاخبة فوق رأسه.

هجر حياته الماضية، طوى الصفحة ورحل هو الآخر بعيدًا.. بعيدًا..

زمان.. كان يحلم هو وزوجته بأن يشتريا شقة في مدينة تطل على البحر، ويقضيا إجازاتهما مع الصغير على الشاطئ، يسبحون ويمرحون ويستنشقون نسمات المحيط المحملة بروائح السمك والرمل والأعشاب البحرية..

قدر له أن يحقق حلمهما وحده، باع البيت والسيارة وقدم استقالته واشترى هذا الكوخ المتآكل من صياد عجوز.. ترك له عدة صيده أيضًا وذهب للعيش مع ابنه خارج البلاد.

ارتاح في عزلته، المكان مهجور وبعيد جدًا عن المدينة.. خلفه صف من الصخور السوداء الحادة.. وأمامه المحيط الشاسع.. بغموضه..  بتقلباته العنيفة وهديره الدائم..

ينام.. يتناول القليل من الطعام.. ويقضي جل وقته أمام البحر.. بين الصخور.. يصيد السمك.. ثم يرميه إلى الماء.. ويعيد الكرة مرات ومرات..

عزل نفسه عن الناس.. لكنه لم ينس.. ولم يغفر..

أنكر السائق المجرم كل ما نسب إليه، ولأنه كان يتكئ على ضلع قوي، حظي بمحاكمة هزلية، ثم ما لبث أن أطلق سراحه وسجلت القضية ضد مجهول.. ونسي الناس الأمر.

ولكنه لم ينس..

سنوات وهو يتتبع تحركاته من بعيد، ويفكر، ويتأمل.. سنوات وهو يقلب الأمر على كل الوجوه..

اقترب صوت محركات قادمة من اليمين.. من الطريق الملتف خلف الصخور، والمؤدي إلى المدينة.

أجفلت النوارس وزاد صياحها..

ولم يكلف نفسه عناء الالتفات..

عرف أنهم سيأتون..

ليس نادمًا.. يجد المرء نفسه أحيانًا مجبرًا على إحقاق العدالة بنفسه.

لاحق المجرم، واستدرجه إلى مكان قريب. لم يكن الأمر صعبًا، اكتفى بانتحال شخصية شابة فائقة الجمال تبحث عن حبيب، خبرته كمهندس كومبيوتر سابق، ساعدته على إحكام الفخ وتضليل المجرم.

لم يكن مستعجلاً، آمن خلال فترة حداده الطويلة بأن الانتقام طبق يؤكل باردًا..

سنوات من الثرثرة الإلكترونية والمواعيد الملغاة بذكاء في آخر لحظة. وفي النهاية.. في النهاية جاء المجرم يجري لحتفه كالأبله.

أذاقه المر من نفس الكأس.

رماه أرضًا، واستولى على سيارته، ودهسه حتى الموت.. ثم دفنه في الرمل.. وساق السيارة بعيدًا.. وتخلص منها.. وعاد إلى كوخه وهو يبكي كالطفل..

عرف أنهم سيأتون.

توقفت سياراتهم في مكان قريب، وتقدموا وأوامر الاعتقال تسبقهم نحو الصياد الشاب المتسمر كتمثال على الصخر الزلق، وسنارته في يده.

كان بانتظارهم.