عهد الجنون

سلمى الجابري
في خضم كل هذه المشاعر التي كانت تنذر بالشؤم وفداحة البؤس الذي أعيشه، أو بمعنى أدق الذي أحاول التعايش معه جاهدة، كان لابد علي من الهرب لموطن لا يطأه قدمك، لا يجتاحه خيالك، كان من الضروري جداً أن أتحايل على اللحظة المارقة، وعلى نزق هذه الحياة، كان من اللازم أن أعانق كل الكلمات الصديقة في بلد أجدد فيه عهد الجنون، عهد الثورة، عهد اللهفة المباغتة، عهد الصبابة والبشاشة، كان عليّ الرحيل دون النظر إلى الماضي، كما كان عليّ النهوض سريعاً من تحت أنقاضِ الحنين بخفّة، فقط حتى أستجمع بقاياي كما يجب. فأنا أحتاج جداً أن أكتبني من البداية، أن أعيد خلقي من جديد، أن أرتب ذاتي، وأن أؤثث أناي كما تستحق، أن ألوِّن نفسي بين فينةٍ وأخرى بضحكةٍ ومشاكسة، فأنا أحتاج أن أحقنني بإكسير الحياة؛ بأن أسير مطولاً بين المناطق المحظورة، وكلّ أمصال السعادة مُعلقة بين وريدي والعدم. لا يمكننا أن نستمر هكذا إلى الأبد دون جدوى، لا يمكننا أن نظلّ عالقين بين عراء الصمت ولهفة الذكرى، دون حقننا بالنسيان الطاعن، لا يمكننا أن نلوك الماضي بأقدارِ المستقبل، فمن الغباء أن نجعل من سذاجتنا القديمة قصاصاً لنا في حاضرنا، ومن المجحف جداً أن نذكرهم بالحب في أشد لحظاتِ النسيان، فعندما شاهت الوجوه أمامنا ومن حولنا.. حينها لم يعد لنا أي خير نرجوه من البقاء، لم يعد أمامنا سوى الانعطاف سريعاً نحو اللاشيء وكل شيء، حتى نبقى، حتى نبتسم، حتى نراقص كلّ التفاصيل الوليدة، حتى نغني بملءِ الوجع، حتى نتطهر من أدرانِ الذكرى، وحتى نباغت الحب القديم بحبٍ آخر. خلف احتدام الأحلام كان هنالك بصيص يجمعنا بهم، فوق غيمة، بين السبات، وحول التنهدات، كان هنالك قلب يشهق من الحياة حياة ليعيشهم، ليحبهم، ليكونهم، ليأخذهم من منتصفِ الغيرة، من منتصف المسافات البعيدة لعمقهِ هو فقط. كان هنالك اسم نردده بلذة، نتحسس تناغم أحرفه، ونضطرب لوقعه المخيف على مشاعرنا، وعلى أنفاسنا، كان هنالك حب ولدنا بداخله، تعرفنا علينا من خلاله، نضجنا بسببه، وتجعدنا من بعده، كان هنالك رجل لا يلبث حتى يعانق الطفولة بين ذراعيّ، حتى يكبر سريعاً، لنتبادل أدوار المراهقة، كان هنالك هو، بينما بقيت أنا من بعده أناجيه، أكتبه، أحرقه بين الأوراق، وأحلق به مع نوارسي، كان هنالك عمر، كان له وحده، لكن ما عاد الذي كان يثيرني سوى للبكاء وللإجهاض الروحي، الذي بتُ أجيده رغماً عني. كم من الجميل أن نحمل العالم كله بداخلِ حقائبنا الصغيرة، كم من الجميل أن نستودعهم الله بنيّة التخفف من ثقل قلقنا عليهم، من المدهش أن نطأ مطارات العالم من أجلِ مصافحة العابرين، وكل مشردي الهوى بملامح فتية