موتٌ بمعيةِ الكتابة

سلمى الجابري
أن تكتب أمام الأشياء المتأرجحة من حولك، أن تقف بوجه الحلم المارق بحرفٍ مضاد، أن تشارك تقاسيم العودة والحنين مع الكل، هذا الأمر يتطلب منك طقوساً مشبّعة بالحب، ومزيجاً من الشعور الخالص، وهذه الطقوس التي بسببها يتطهّر القلب، وتسمو الروح نحو الأفق الإبداعي بتجلٍ ملهم، هذا ما حرص عليه أبرز الأدباء، حيثُ كانوا يبتعدون عن الحياة الممزقة، ليتوّحدوا مع ذواتهم، ومع أكثر الأشياء المحببة إليهم وهي: (الكتابة). الكتابة التي كانت تأتيهم بصمتٍ شعائريّ، هي ذاتها من كانت تدفعهم لخوضٍ غمار الإبداع بأعمالٍ خلدها لهم التاريخ. كان إرنست همنغواي، يفضل الكتابة واقفاً، حيث كان يقول: (الكتابة وأنا واقف تساعدني على فقدان السمنة، إضافة إلى ذلك فالكتابة في هذه الوضعية تمنحني الحيوية، أفضل كتابة النصوص المتعلقة بالوصف باليد، لكنني أستعمل آلة الكتابة عند كتابة حوارات بين شخصياتي، كما كان يردد أمام الجميع «لستُ سعيداً إلا في خضم الكتابة». لكن غابريال دانونزيو، نقش جملًا كثيرة على أعمدة منزله، وعلى الأبواب والنوافذ، تعبيراً عن عاطفته القوية، وعن تداعي الشعور، والإلهام الإبداعي الذي كان يحرص دوماً على أن يستفزه قدر المستطاع، للحد الذي بدأ يعتصره الحزن، حيث قام بتصميم نعشه في غرفته، ليضطجع متأملاً موته، وكأنه يغتسل من ذنوبه للمرة الأخيرة، وفعلاً هذا ما حدث حيث وافته منيته وهو على مكتبه، لكن قبل أن يموت قال: (أنا من زيّن البيت كله، أنا من صمم الغرف، أنا من وضع التحف والأشياء التي تعبر عن كل مرحلة في حياتي، إنها طريقتي في التعبير عن نفسي وآلامي وانتمائي السياسي ونضالي، شأنها شأن الشعر الذي أكتبه). أما الشاعر جان كوكتو، الذي اشتهر بهذه العبارة التي كتبها على قبره (إنني سأبقى معكم) كانت غرفته تختنق بالفوضى وبالكتب والأوراق، حيث قال: أنا أغرق في غرفتي، وأصبحت الفوضى تطردني من البيت، لذلك لم يكن ليمكث طويلاً في بيتٍ واحد، حيث كان ينتقل بين الفنادق والمنازل، كان يحب السفر بالقدر نفسه الذي يحب فيه الكتابة حتى موته..