الشقة

نجاة غفران

 

انتبه على همس قريب، قريب جداً. حوار خفيض تبين بعض أطرافه.

«هسس... الولد نائم...».

«وإلى متى سيظل حضرته في الفراش؟ والكلية؟ ومحاضراته؟».

«لن تنقلب الدنيا إن تخلف عن بعضها. لعله سهر وهو يذاكر... لنخرج....».

«أو لعله كان خارج البيت مع شلة الأنس إياها. قلت لك إن انتقاله إلى هذه الغرفة أمر مريب. باب الشقة قريب، وبإمكانه أن يدخل ويخرج في أي وقت شاء. أعرف أنك تواربين الباب وتتركينه مفتوحاً له. ماذا لو اقتحم بيتنا لص؟ أنت متهورة...».

ليلة الحادثة...

تغرغرت عيناه بالدموع وحبست مرارة مفاجئة أنفاسه، وجثم ثقل ذكرى ولده وزوجته على صدره، ولم يعد ألم الظهر يهمه، ولا الغطاء الخانق، ولا الفرشة الرطبة، ولا شيء آخر في الدنيا... راح العزيزان... قضيا في رمشة عين وتركاه جسداً بلا روح، قلباً مفجوعاً ينزف ليل نهار...

تكوّم على نفسه في عمق السرير الوثير، وسرت على طول عموده الفقري صعقات ألم تأوه لها، وارتاح لوجعها... آثار العمليات التي خضع لها بعد انتشاله من سيارته لم تختفِ. قال الطبيب إنه نجا من الموت بأعجوبة، فهو منْ كان يقود العربة عندما اصطدمت بها سيارة الشاب الأرعن، الذي لم يكن في كامل وعيه. ضاعت أسرته... وبقي هو يداوي جراحه ويعيش كالأشباح، نصفه هنا، ونصفه الآخر ضائع في عوالم لا يراها غيره.

عادت الأصوات تقترب.

وباب الغرفة يفتح بهدوء.

 «دعيني أوقظه. لم يعد طفلاً... ».

 «قلت لك: لا. ماذا؟ ألا شغل لديك غير الولد؟ عد إلى صحيفتك، اخرج إلى المقهى، اتصل بأصحابك... ياااه... يوم أغبر ذاك الذي أحالوك فيه إلى المعاش... ».

ما معنى هذا؟ من هؤلاء؟ لا أحد يسكن معه...

تجاهل وخز الألم، ومد يديه يبعد الملاءة عن وجهه، ويحملق مذهولاً في السقف ذي الطلاء الأزرق الداكن. ماذا جرى لغرفته؟ أبعد الغطاء تماماً عن أعلى جسده، واستند على كوعيه، ونظر غير مصدق إلى المكان الذي لا يعرفه. غرفة صغيرة يحتل نصف مساحتها مكتب كبير، تتزاحم فوقه أجهزة كثيرة. شاشة كومبيوتر وآلة طابعة وآلة تصوير.

ليست هذه غرفته.

ماذا يفعل هنا...؟

قام يغادر الفراش بإعياء وهو يحاول أن يتذكر كيف وصل إلى هنا. الليلة خرج ليشتري أقراصه المنومة، وتمشى طويلاً قبل أن يجد صيدلية مفتوحة، واشترى الأقراص، وبعدها، بعدها تمشى من جديد، طويلاً، طويلاً، ولم يشأ العودة على الفور إلى شقته، ودلف إلى تلك المقهى في زاوية أحد الشوارع، وكان هناك جمع من الزبائن، يتتبعون مباراة كرة قدم، ويصيحون كالمجانين، وشرب ما قدمه له النادل، وبلع بعضاً من أقراصه. أجل. يتذكر جيداً أنه بلعها عندما بلغ الصياح أوجه، وغادر إلى بيته...

فتح باب الغرفة التي لا يعرفها، ووجد نفسه وجهاً لوجه مع أشخاص لا يعرفهم أيضاً.

امرأة منفعلة، تبعد بقوة رجلاً يحاول التخلص من قبضتها.

 «منْ أنتما؟ ».

«منْ أنت؟».

طرح السؤالان في نفس الوقت، واندفعت المرأة تصرخ داخل الغرفة «ماذا فعلت بالولد؟ أين ابني؟ سمير... اطلب الشرطة على الفور...».

طرق أحدهم الباب، واستدار الرجل يفتح، والمرأة لا تكف عن الصراخ: «إن حدث لولدي مكروه سأقتلك... أتسمع؟ قل أين هو... أين مروان؟».

 «ماما...؟» سأل الشاب الذي دخل وعيناه محمرتان من السهر «لمَ لمْ تتركي الباب مفتوحاً؟ ألم نتفق؟ ومنْ هذا؟ ماذا يحدث في غرفتي...؟».

أخذ الجميع يتحدث في نفس الوقت.

لم تكن تلك شقته، ولا البناية التي يسكن فيها، ولا شارعه.

دخل بيت أناس لا يعرفهم، ونام في فراشهم.

تأثير الأقراص المنومة لاشك.

أسند ظهره على الحائط وضحك بهستيريا...

من زمان... لم يضحك بهذا الشكل.