المساحات المعلبة

محمد فهد الحارثي

 

 

هي المطارات بصخبها وحزنها وفرحها. هي اللحظات التي تجسد اللقاء والوداع والخوف. المطارات تلك المساحات المعلبة التي تكتنز مشاعر مختلفة بكل تبايناتها وأسرارها. لحظة الإقلاع هي لحظة فاصلة ما بين قرار السفر أو الهروب للعودة. أتأمل الوجوه، وأبحث عن وجه يشبه ملامحك، فألمح الوجوه شاحبه والنظرات زائعة. أتحسس لصوت يقارب نبرات صوتك فأسمع أصواتاً حادة وقاسية. لم أدرِ.. هل أنا من كنت أراهم هكذا، أم هم في الحقيقة بهذه الملامح. لايهم فالمحصلة واحدة.

سفري لم يكن رحيلاً منك، بل هو اكتشاف جديد لك. ما أصعب المقارنات مع الأشياء المستحيلة. من يشبهك، فأنت حالة استثنائية صعبة التكرار. موظف الجوازات يسألني إلى أي البلاد تسافر؟. هل لو أخبرته أن الديار كلها قرى صغيرة، وأنك أنت العاصمة، سيفهم؟. هل يستوعب لو عرف أن سفري سيكون إقلاعاً وهبوطاً وما بينهما شريط استرجاع لكلماتك وابتسامتك، وحوار غير مكتوب معك أتخيل فيه الأجوبة. يا سيدي ضع ختمك وسجل عندك ما شئت فكل المدن عندي تتشابه.. هي مجرد رسومات على الخارطة، وتبقي البوصلة اتجاهها واحداً، على حيث يكون القلب يكون الوطن.

تجربة السفر بالنسبة لي لم تكن مثيرة في تفاصيلها؛ بل هي مهمة في نتائجها. كثير من الأشياء نعتقد أننا نعرفها، ولكن تجربتها شعور آخر. التجربة هو الخط الفاصل بين الوهم والحقيقة. علمني السفر أن الرحيل ربما هو الذي يرسخ الحنين. وأن ما نمتلكه أغلى بكثير مما نظن. وأيقنت أن المعادن الأصيلة هي التي تستحق المراهنة والتضحية والانتظار. كل الخطوات التي مشيتها في سفري كانت رسائل تؤكد لي أنني كم محظوظ بك، وكم هي الحياة كريمة أنها وهبتني أجمل وأغلى هدية في العمر.

حينما عدت سألني موظف الجوازات: من أي البلاد أتيت؟. فأجبته: وهل سافرت أنا؟.

 

اليوم الثامن:

السفر ليس فقط معرفة العالم الجديد...

بل هو اكتشاف مالديك وتجهله من سنين