تحت النظر

نجاة غفران

 

 

وأخيراً... تعلقت بباب الحافلة المتحركة ببطء وقذفت بنفسي فيها، بين سيقان الركاب المتزاحمين.

تأخر موعدها كالعادة. عشرون دقيقة كاملة. وتضاعف عدد الركاب. ولم يكلف السائق نفسه عناء الاعتذار، ولو حتى بالصمت.

انهال علينا بوابل من الشتائم النابية، وانطلق قبل أن يركب الجميع.

تعوّدت على الأمر. مزاجه معكر على الدوام. كأنه يحملنا على كتفيه ويوصلنا إلى حيث نريد. كأنه لا يرغب بأكثر من أن نخلي الحافلة، وندعه يعود بها إلى الجراج، ويرجع إلى بيته؛ ليكمل نعاسه...

أغير الحافلة مرتين قبل أن أصل إلى الكلية. سائق العربة الثانية لا يقل عن الأول فظاظة وعصبية. أحاول أن أصم أذنيَّ عن شتائمهما الفجة. تركب معنا طالبات وسيدات في أعمار مختلفة. لا يجوز التفوه بمثل هذه الأمور أمامهن. لكن ما العمل...؟ لا أحد من الركاب الذكور يرد على سائقي الحافلتين. الجميع ينشد السلامة... وأنا... وإن كنت مستعداً لإبداء بعض الشهامة وحسن الخلق... أجد نفسي عديم الحيلة أمام ناس بهذه الأحجام...

أجل. أنا جبان. أعترف بذلك.

 ولهذا بالتحديد سجلت نفسي في كلية الحقوق. وقررت أن أدرس المحاماة وأتعلم كيف أدافع عن نفسي وعن الآخرين...

ركوب الحافلة شاق عليَّ كل يوم. لكن ما باليد حيلة. أسكن في حي شعبي بعيد جداً عن مدار الجامعة. سيارات الأجرة ترف لا يمكن أن أحلم به. ولا خيار آخر أمامي...

كل يوم... أشق طريقي بصعوبة بين الركاب. أتحمل نظرات من أحظى بلفت انتباههم. أتظاهر بأنني لم أسمع ضحكاتهم المتهكمة، وتعليقاتهم الجارحة. وأبحث عن ركن أحشر نفسي فيه بانتظار محطتي التالية. وتبدأ الفرجة...

 أينما كنت أرى نفس المشاهد تتكرر... باختلافات بسيطة.

 ألمح الأيدي المتسللة إلى ثياب الغافلين، أرى الجيوب تقلب، والحقائب تفتح، والهواتف تسرق، ومحافظ النقود تدس بين ثنيات الثياب... أشاهد الأجساد تلتصق ببعضها... وأرى الأيدي تعبث، والأذرع تمتد بلا حياء... وأسمع الضحايا تنتفض وتشهق بهلع، وترمي بنفسها للأمام هرباً من حركات المتحرشين الفجة... وأغلغل في مكاني، وأكزّ على أسناني بغيظ، وألوك عشرات الكلمات في فمي... ولا أستطيع أن أتفوه بحرف...

سيسحقونني بأرجلهم إن تجرأت.

أتكوَّم مكاني، وأصغر أكثر في عيني... وأدس رأسي بين كتفي هرباً من روائح العرق الكريهة المنبعثة من آباط الركاب... وأجدني مجبراً على خفض عيني استحياء... لأتيه بين السيقان العارية والأحذية المغبرة والجوارب المعتقة والأرجل التي لم يمسسها الماء منذ زمن...

أحبس أنفاسي، وأترك الجمع غير المبالي بي يعصرني بانتظار المحطة التي تفرغنا فيها الحافلة، كما تفرغ عربات الشحن حمولتها الثقيلة، ويهرب الركاب ناشدين لفحة هواء وشمة أكسجين، وأتبعهم ضائعاً بين سيقانهم، ذاهلاً وسط زحامهم، ماسكاً بكلتا يدي حافظة نقودي وحقيبة كتبي، ولا أشعر بأنهم عادوا ينتبهون إليَّ إلا عندما أركب الحافلة التالية، وأشق طريقي بين السيقان المتراصة، وأسمع الضحكات الفجة والتعليقات الساخرة، بل وأرى بعض الهواتف ترفع والرؤوس تنحني؛ لتأخذ سيلفي معي... أنا الراكب القزم.