خيال المآتة

نجاة غفران

 

منذ أكثر من ثلاثين عامًا ونحن نقضي الصيف هنا، في هذه البلدة الشاطئية الصغيرة؛ بعيدًا عن العاصمة.. رحمة، زوجتي، ترفض أن نذهب إلى أي مكان آخر، أجبرتني على بيع قطعة الأرض التي ورثتها عن والدي، وشراء شقة في الواجهة البحرية المطلة على المحيط.. شقة لم أتمكن رغم القرض الذي أخذته من البنك، من دفع ثمنها بالكامل.. جنون حقيقي.. كما قال إخوتي الذين تعودوا أن يعيروني برضوخي المتواصل لأوامر الست الهانم، زوجتي المصون.
لا أحب الشجار، ورحمة لا تحمل من صفات اسمها شيئًا، زعيقها يصل إلى آخر الدنيا عندما تغضب، وهي طيلة الوقت تغضب.
تعودت على ذلك، لكن الأمور صارت صعبة بعد إحالتي على المعاش، لم يعد لدي مكان أهرب إليه كلما ضاقت بي الدنيا وعجزت عن إرضائها، صرنا نظل مع بعض، طيلة اليوم، ننكد على بعض، ونتشاجر مع بعض، لأتفه الأسباب وأسخف الأمور.
أحاول أن أخفض سقف متطلباتي لأشعر برضاها عني، ولكنني أفشل غالبًا، ولا أظن أن ثمة أحدًا في هذا العالم يستطيع أن يكسب ودها ورضاها بشكل دائم..
زوجتي صعبة الطباع، عنيدة الخلق، متقلبة المزاج.. كل صباح، توقظني والناس نيام لأجلس معها في الشرفة ونراقب شروق الشمس، وكل صباح، أبلع رغمًا عني قهوتها المرة ولا أستطيع أن أضيف إلى فنجاني حبة سكر لأنني كما تقول، "كبرت وصرت معرضًا للإصابة بداء السكري، ولزم أن أحتاط وأخفض استهلاكي من هذا السم".. وكل صباح، تستعجلني لنخرج إلى الشاطئ ونفطر أمام البحر قبل أن يمتلئ الشاطئ بالناس.. "لا أدري إلى أين يسير هذا العالم.. كل هؤلاء النسوة اللائي يلدن كالأرانب.. كيف ستقدر الدولة على تغذية وتعليم وكسوة وتشغيل كل هؤلاء الأطفال..؟ ناس متخلفة صحيح..". 
تردد نفس الأسطوانة وهي تغير ملابسها.. وتنسى أننا لم ننجب، وأنه لو كان لدينا أولاد لتغير رأيها بالتأكيد..
أضع الفطور الذي أعدته في سلة الأكل، وأرتب في صندوق التبريد الصغير قنينات الماء، وأطوي السجادة التي نجلس عليها، وأضع قبعتي على رأسي وأحمل الشمسية الثقيلة، وتفتح رحمة لي الباب وهي تسأل: "لم تنس مجلتي وجريدتك.. أليس كذلك؟ والوسادتين الصغيرتين؟ والشرشف ؟"، وأطمئنها وأنا أستعجلها لتمر أمامي، ونغادر الشقة وتسبقني وهي توبخ: "بسرعة.. سيمتلئ المكان بالمصطافين.. أريد أن أتناول فطوري بهدوء.. أتسمع؟ هيا.. لماذا انتعلت هذا الشبشب السخيف مادمت لا تعرف كيف تمشي به..؟ أي جنون هذا..؟"
نلتقي في طريقنا بإحدى جاراتنا، وفي يدها كيس فطائر، وتتوقف زوجتي لتسألها عن حال ابنتها التي ستلد قريبًا.. ويطول الحديث وأنا واقف قربهما ببلاهة، مادّا ذراعي المثقلتين بالأغراض وكأنني خيال مآتة، وأعرق وأنشف وأحس بأنني على وشك الوقوع أرضًا.. وأستعجلها: "هيا يا رحمة.. حملي ثقيل.. والشاطئ سيزدحم بالناس..".
وترمقني بنظرة حانقة، وتقول للجارة: "سأتصل بك عندما ينام بعد الظهر.. لسانه طويل ولا يملك حبة لباقة..".
أحمر غضبًا ولكنني أمسك لساني الطويل، ونتابع الطريق وهي تبرطم: "أخجلتني أمام المرأة.. منك لله... تنتظر ابنتها طفلها الرابع.. ما هذا الجهل؟ ألا يكفيها ما عندها؟ قل.. هل لاحظت كم ازداد وزنها؟ لا أستغرب ذلك.. مع كمية الفطائر التي تبلعها كل صباح.. بالمناسبة.. وزنك أيضًا ازداد.. عليك أن تخفض كمية أكلك، وإلا ستصبح كالبالون.. وسنبدأ ريجيمك هذا الصباح..".
أفرش لها السجادة على الرمل وأنهمك في تثبيت الشمسية والعرق يتصبب مني وأنا ألهث، بينما تمدد ساقيها أمامها وتتكئ على الوسادتين وهي تنظر باستمتاع إلى البحر.
زوجتي حادة الطباع، فظة الكلام.. ولكنني أحبها.. وهي محقة.. صرت أجد صعوبة في الحركة، بعد أن زاد وزني، أصبحت ألهث حتى وأنا أمشي.. لست نادمًا على ارتباطي بها، لم تتركني، عندما علمت بأنني عاجز عن الإنجاب، ولم تتخل عني عندما فقدت في بداية زواجنا وظيفتي، ولم توغر صدري على إخوتي عندما استولوا على أغلب أملاك والدي ورموا لي قطعة الأرض التي بعتها فيما بعد.
زوجتي غليظة الطباع.. ولكنني أحبها.