على حافة الهاوية

نجاة غفران

 

.في السادس من أغسطس عام ألفين وثلاثة عشر، جلست معنا أختي الكبرى لآخر مرة حول مائدة الغداء.

كان الجو حارًا، وكنا نتأهب لتناول وجبتنا في الحديقة الخلفية، تحت ظل شجرة تين ضخمة، هواء الجبل العليل يلطف سخونة ذلك اليوم الصيفي الذي لم ينمح أبدًا من ذاكرتنا.

كانت رجاء، أختي، ترتدي قميصًا أبيض شفافًا، وتضع مساحيق على وجهها، وكان والدي يرمقها بحنق، استأجر ذلك الشاليه الجبلي المنعزل وأتى بنا إليه ليبعدها عن حياة المجون التي تعودت عليها في المدينة، الخرجات بلا حساب، اللبس على الموضة، الماكياج، رفقة السوء.. لدى رجاء شلة من الأصدقاء المجانين الذين يتهافتون معها على كل جديد وغريب.. قصات الشعر المستفزة.. قطع الثياب الممزقة.. الأقراط المعلقة في الأنف والشفة والصرة... السهر حتى الصبح على مواقع التواصل الاجتماعي..

رجاء صارت مشكلة في البيت، والدانا يتشاجران طيلة الوقت بشأنها، والدي يرفض كل ما تقوم به جملة وتفصيلاً، ويهدد بأن يمنعها من مواصلة الدراسة ويقعدها في البيت، بانتظار عريس الغفلة، ووالدتي تدافع عنها باستماتة، وترى أن الأمور لا تحل بالعنف، وأن البنت تمر بمرحلة مراهقة، وهي بحاجة لمن يستمع إليها ويتحاور بهدوء معها ويتقبل بعض حماقاتها.. بل كل حماقاتها.. تقول والدتي.. فالبنت ليست فتاة عادية.. ونبوغها المبكر يشفع لها الكثير من الأمور.

رجاء تملك دماغًا حير مدرسيها، تفوقت في الرياضيات مبكرًا، وتم نقلها إلى مدرسة خاصة تابعة للبعثة الفرنسية، لم تكلف والدنا درهمًا واحدًا؛ فمدير المدرسة هو من اتصل به وعرض عليه أن تلتحق ببرنامج البعثة الخاص بالأطفال الموهوبين، كانت رجاء حينها قد احتلت المرتبة الأولى في أولمبياد الرياضيات الوطني. انتقلت إلى المدرسة الفرنسية وتسارعت وتيرة تفوقها، لدرجة أنه تم إعفاؤها من اجتياز العديد من الصفوف.

في الخامسة عشرة من عمرها، حصلت على الباكالوريا بميزة ممتاز جدًا، وبدأت تحضر للسفر إلى الخارج؛ لمتابعة دراستها هناك.

كانت العروض قد انهالت عليها من جامعات أوروبية وأمريكية كثيرة، وكان يفترض أن تحسم في الأمر خلال ذلك الصيف المنحوس.

كنا نريد البقاء في الدار البيضاء لنيسر لها سبل لقاء زملائها واستقصاء آفاق مختلف شعب الدراسة في الخارج، في مكاتب السفارات والقنصليات الموجودة هناك.. لكن والدي كان قد بلغ من الحنق ما بلغه، لم يعد يهمه مستقبل البنت بقدر ما كان يهمه تقويم سلوكها، رجاء كانت منذ صغرها ثائرة، لم تشبهنا.. لا أنا، ولا أختنا الصغرى، لديها دائمًا إصرار عجيب على تنفيذ ما في دماغها، وأيامها.. لم تكن تفكر سوى في شق طريقها بنفسها، والخروج مع أصحابها، واختيار ما يناسبها براحتها، دون ضغط ولا وصاية.

بصعوبة.. أقنعناها بمرافقتنا إلى الجبل، الشاليه الذي استأجره والدي كان مكلفًا، ومزودًا بكل وسائل الراحة، بما في ذلك شبكة الإنترنت، وأول شيء فعله أبي بعد وصولنا، كان حجب الخدمة عنا، وحجز هواتفنا وحواسبنا، قال إننا جئنا للراحة والاستجمام ورفقة بعضنا، وليس لدفن أرواحنا في شبكات الاتصال الخرافي إياها.. كما كان يلقبها.

ثارت ثائرة أختي، وتشاجرت مع والدنا، وتدخلت والدتنا، وتشاجرت هي الأخرى معه، وقضينا الأيام الأولى من الإجازة في جو مشحون للغاية، يتعالى فيه الصراخ والبكاء والتهديد والوعيد كل يوم..

ويوم الثلاثاء الموافق للسادس من أغسطس.. انتهى كل شيء.

لم يستطع أبي أن يحبس حنقه، شخط في وجه رجاء، وأمرها بأن تنهض في الحال وتغسل وجهها وترتدي لباسًا محترمًا، وردت عليه بصفاقة، وهب من مقعده، وشدها من شعرها وضربها، وتدخلت أمي بعنف، ودفعته بعيدًا، وأفلتت رجاء من قبضته وجرت مبتعدة وهي تبكي وتتأفف من عيشتها معنا، وأبي يقسم بأغلظ الأيمان أن يربيها متى رجعت..

خيم الوجوم علينا.. وأمرنا والدي بأن نتناول طعامنا، وعاد إلى مقعده وهو يرتجف من الغضب.

لم ترجع أختي. بحثنا عنها في كل مكان.. أخطر والدي سكان القرى المجاورة، وذهب إلى الشرطة، واستنجد بالقريب والبعيد.. دون جدوى.

اختفت رجاء. مضت خمس سنوات، وانفصل والداي، وارتبكت حياتنا أنا وأختي، وتشتتنا بين والدينا، وضاع كل شيء..

وها هي الشرطة تتصل بنا الآن وتخبرنا بأنه تم العثور على أختي.. أو بالأحرى.. على بقايا أختي.. في بئر منسية في أعماق الجبل.

هل رمت نفسها فيها عنوة.. أو وقعت وهي تجتاز شريط الطريق المهجور الذي تقبع البئر على حافته..؟ لا أحد يدري..

الله وحده يعلم. رحمها الله.