وليمة أسماك البحر

نجاة غفران


ما أروع هدوء هذه الليلة... ليلة شاعرية حقًا... أنا... وأنت... والقمر... والبحر من حولنا... ماذا نريد أكثر من هذا...؟
أمد يدي إلى شعرك الكستنائي الجميل... أحس به ناعمًا... منسدلاً في فوضى مثيرة حول وجهك الهادئ... أبعد أطراف الثوب الذي يلفك وأكاد أسمعك تصرخين: «أنت لا تفهم شيئًا في الموضة. لا حاجة بي لتعليقاتك...».
«لن أسمح لك بالخروج هكذا. ملابسك غير محتشمة. أنت امرأة متزوجة يا مدام...».
«عملي يتطلب أن أعتني بمظهري. كان عليك أن تفكر عشرين مرة قبل أن تطلب الزواج من عارضة أزياء...».
خطفت قلبي من أول نظرة. كيف كنت أستطيع أن أُعمل عقلي وأنا أحلم بك ليل نهار وألهث خلفك كالمجنون...؟
ما أرق هذه النسمات. وما ألطف هدوء الليل. وصمتك...
كم تمنيته... وكم اكتويت بنار نقاشاتنا العقيمة...
«تبالغين في السهر خارج البيت. انتبهي. ألسن الناس لا ترحم...».
«وما شأني بها؟ لا تقل لي بأنك تستاء منها... أتساءل لماذا تزوجت بي...؟».
«كفى سخرية. جعلتني أضحوكة بين الناس. هل يرضيك ذلك...؟».
«ليس لدي ما أخجل منه. على العموم أنت الذي تدأب على وضع نفسك في مواقف سخيفة للغاية...».
صحيح. أنا من اكتوى بنار الغيرة. أنا من كظم غيظه واضطر أن يبلع الإهانة تلو الإهانة؛ حفاظًا على العشرة والحب وصيانة للرباط المقدس الذي يجمعنا والذي لم تقيمي له وزنًا. صدق أهلي عندما حذروني منك. لا تناسبينني. لست من وسطي ولا من عالمي. أنت كائن اجتماعي يعيش تحت الأضواء، وأنا... أنا أستاذ جامعة مسكين... فأر مكتبات يتلخص عالمه في كتبه ومحاضراته ومؤلفات النقد التي يعكف عليها سنوات، وينشرها لكي لا يقرؤها أحد غير تلامذته وفئة قليلة من المهتمين.
السؤال الذي كان يجب أن يطرح من البداية يا حبيبتي هو: «لماذا تزوجتني أنت؟ ما الذي جعلك تقبلين بنكرة مثلي...؟»
ماكياجك المكلف لا زال محافظًا على رونقه، رغم الرذاذ المتطاير من حولنا، ونحن نتقدم في قاربنا البخاري نحو عرض البحر. تتذكرين عندما قلت لي إن برجك هو الحوت... وإنك لا تجيدين السباحة... وتخشين ركوب السفن...؟ تتذكرين...؟ وعدتك حينها بأن آخذك في رحلة بحرية تدوم شهورًا... نطوف أثناءها العالم ونكتشف الدنيا ونستمتع بالسفر على ظهر باخرة عملاقة تمخر عباب البحار والمحيطات وتنقلنا إلى عوالم لم نكن نحلم بها... تحمست حينها للفكرة وقلت لي إن لمواليد برج الحوت علاقة فريدة بالماء، فهم يخشونه ويتمنونه، ويبتعدون عنه ثم يعودون إليه... وهذه حقيقة. فنحن الآن فيه... وقد عدنا إليه. أليس كذلك يا حبيبتي...؟
دعيني أضمك إلي...
ياااه... من زمان لم آخذك في حضني كما الآن. من زمان لم تعودي تسمحين لي بأن أقترب منك، وأمسد شعرك هكذا، وأقبل وجنتيك الباردتين، وأمسح عن وجهك طبقات الزينة اللعينة التي أبعدتك عني...
«لا... لا تلمسني... ستفسد ماكياجي... ستخرب طلتي... ابتعد عني...» كلماتك التي ذبحتني مرارًا وتكرارًا تتردد على مسامعي. فلتذهب إلى الجحيم زينتك اللعينة. صرت كالمتسول المصاب بالجرب، أعيش مع امرأة تنثر إغراءها على الغرباء ولا أستطيع الاقتراب منها أو حتى شم عطرها.
«إنها ضريبة الجمال» تقولين لي بسخرية لاذعة «كان عليك أن تفكر عشرين مرة قبل أن تتقدم لي. أنا جميلة، ومطلوبة، ومرغوبة، ولدي فانز يجب أن أرضيهم...».
تنفجرين ضاحكة وتسألينني وقد تقلب مزاجك فجأة وتملكك القلق «هل تظن بأن قوامي سيتغير عندما أتقدم في السن؟ يجنني التفكير في ذلك. هل سأصبح بدينة؟ هل ستغطي التجاعيد وجهي وتتغير ملامحي؟ وما الذي سيحدث لي إذا مرضت ورقدت في الفراش؟ وإذا... مت؟».
لا يا حبيبتي. لن تشوه التجاعيد وجهك الجميل.
لن يتغير قوامك.
لن تمرضي.
ستعودين إلى الماء الذي هربت منه. سيغرق جسدك الممشوق الذي خنقته حتى الموت في أعماق المحيط، وسيتحول إلى وجبة شهية تتخطفها الأسماك الجائعة. وسأعود من حيث أتيت... دونك.
دعيني أحضنك لآخر مرة وأستمتع وإياك بالليل، والبحر، والقمر، ونسمات الصيف اللطيفة.