في ضيافة بلقيس ـ 2 ـ


بعدها علمت أن الأخ المسؤول عن المكتب الفلسطيني بصنعاء هو الذي منحني تصريحاً مكنني من دخول مملكة بلقيس. ها هي «ديدون» تمد يدها إلى أميرة اليمن بوردة، لكن بلقيس تنام تحت جدران قصرها الذي انهار، جرفته مياه الطوفان. الشوارع مزدانة بدكاكين متراصة تبيع بضاعة متنوعة، وكأنك وسط سوق قديم، تلك الأسواق التي سمعت عنها في حكايات جدتي تبيع الحرير الهندي، والكشمير، والمجوهرات والعقيق الثمين، الذي اشتهرت به بلاد اليمن، والبهار والأقمشة، الرفيعة منها والرخيصة. رفعت رأسي فحيتني منازل بيضاء ذكرتني بمنازل توزر والرباط. بنيت بحجارة صماء، وزخرفت نوافذها وأبوابها بأشكال كثيرة، منها نجوم خماسية وسداسية، وربما يعود ذلك إلى الاستعانة بمهندسين من أصل يهودي عند بناء تلك الديار، في الحقيقية سألت ولم أحصل على جواب. الرحلة إلى منزل صديق زوجي متواصلة، والجوع أصبح لا يطاق، بعد أن نفد ما ادخرته من خبز، ولا مال لدي، وزوجي لا يملك فلساً واحداً. اقتربنا من مطعم مختص في الدجاج المصلي، اقتربت من واجهته، مسحت على البلور، تلمظت، سال ريقي، أو ما تبقى من ريقي، تمنيت لو يتبخر كل من حولي وأبقى أنا ودجاجة بمفردنا لا أحد معنا. لم أعد أبالي بالعيون التي تلاحقني، وكأنني وافدة من كوكب بعيد، ولم أعد أرى الرجال المرتدين للفوط، ولا النساء المتشحات بالسواد. أمام باب قديم وقف زوجي مشيراً إلى منزل يشبه «الحوش العربي»  بتونس، قال: «وصلنا، هنا نجد حسن، صديقي حسن».

طرق الباب، انتظرنا كثيراً قبل أن يحدث الباب الثقيل قرقعة ويطل وجه امرأة ترتدي ثوباً طويلاً يختلف عما تلبسه الأخريات، هناك قالت: «مرحباً»، قال زوجي بعد أن حياها: «أنا صديق حسن، هل هو موجود؟» أومأت المرأة برأسها ثم فتحت الباب وفسحت الطريق مرحبة، استقبلنا حسن، وبمجرد أن مد يده يصافحني تهالكت على أول كرسي اعترضني. فاحت رائحة الطعام، وتسرب الأمل إلى روحي. بعد الغداء أو العشاء، لم أعد أذكر، أو ربما لم أميز حينها الوقت، لم أكن أهتم بشيء آنذاك غير أن أملأ معدتي الفارغة وأنام. نسيت خجلي، ولم أعد أعتني بنظافة يدي قبل الأكل، فأنا أرتدي ثوباً واحداً منذ أسابيع، ولم أغتسل أيضاً بعد ذلك الحمام الساخن بنزل القاهرة. قال صديق زوجي بصوت متلعثم «أنا آسف، لأنني مضطر للسفر بعد يومين إلى بيروت». فهم زوجي وفهمت مقصده. بعد يوم واحد غادرنا منزله، قال زوجي: «لا تهتمي، غداً يصل أبو عمار ويفرجها، في انتظار ذلك سنقيم في نزل»، وبالفعل توجهنا إلى نزل جميل ومريح، يجاور حصناً أثرياً قديماً من زمن الطوفان، كان النزل يحمل اسم «رماده حدة» تابعة إلى شركة مصرية، ويعمل به عمال قدامى من الصعيد المصري. داخل ذلك المكان المريح انتظرنا وصول ياسر عرفات، الذي جاء بعد أسبوعين. وكان وصوله إلى هناك خيط الأمل الوحيد الذي تمسكنا به كل تلك المدة، فطرنا إليه مستنجدين باحثين في قلبه عن باقة فرح يرشق بها ما أحاطنا من ظلمات. وصدق حدسنا، خصوصاً أنا، لأنني لم أره من قبل خارج الصور. رحب بنا مهنئاً، مباركاً زواجنا الحديث، ثم وجه كلامه إلي قائلاً: «أنا أحب تونس، وأنت تونسية، لذلك سأساعدكما» وبالطبع ساعدنا، ومنحنا منزلاً وعملاً بمدينة صنعاء الجميلة، لكن إقامتنا هناك لم تطل، فرحلنا من صنعاء إلى عدن.