الولد

بدأ الأمر بوقائع صغيرة أخذت تتراكم مع مضي الأيام، استحوذ على ألعاب أختيه، مزق كتبهما، وسخ ثيابهما، صرخ عليهما، ضربهما، أرهبهما، ولم يوبخه أحد، هو رجل الدار، وارث لقب العائلة، تاج رأس الأم، ومفخرة الأب، لا يحق لأحد نهره، ولا ضربه، ولا إخافته ولو بنظرة صارمة قد تسبب له عقدة نفسية، كبر وزاد بطشه، وتلكأ والده في تسجيله في المدرسة، الصبية فيها كثر، والمخاطر جسيمة، والمعلمون لا يؤتمنون.

 أنهى عامه السابع حين سجله فيها، وبدأت المشاكل.

شمشون الصغير الذي تعود على الأمر والنهي في أسرته، لم يعد ذكرًا متفردًا تتبعه الأعين، وتهش له القلوب، المدرسة تعج بالأولاد، بل إن غالبية تلاميذها صبية متفاوتون في الأشكال والأحجام، ضاع الصغير وسط السيل، صار نكرة، ثم مسخرة تشير إليها أصابع الأولاد بتهكم، ويتفكه عليها كل رواد المدرسة: حضرته، ابن الثماني سنوات، يدرس في صف صغار الوافدين، ويتهجأ مثلهم الحروف، ويتعلم إمساك القلم، ويفتح الكتاب، ويتتبع الخطوط على السبورة، ويجلس في الخلف، ولا يأتي دوره أبدًا إلا بعد أن تنتهي أدوار بقية التلاميذ، لم يسره ذلك، وبدأ يفرض رغباته بالطريقة الوحيدة التي تعلمها في البيت، بالعنف، لم يسلم أحد من بطشه، حتى أقرانه في الصفوف الأخرى، والأولاد الذين يكبرونه سنًّا، تشاجر مع الجميع، تمرغ في التراب، ومزق الثياب، وأسال الدماء، وجاء والده يهدد التلاميذ، ويتوعد المعلمين، ويُسمع المدير من الكلام ما لا يجوز، تكررت الصدامات، وأعلن الأب أن ولده لم يعد بحاجة إلى التعليم، سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، بعد أن أقعده في البيت، لم يعد الولد يتحمل نفسه، ولم يعد يقنع بشجاراته السهلة مع شقيقتيه، زاد طغيانه، واستفحل ظلمه، واضطر والده صاغرًا أن يعيده إلى المدرسة، لم تعنه الدراسة بقدر ما عنته شجاراته مع أقرانه، محيط النقائم، وحسابات الصبية، والتهديد، والوعيد، وتصفية الخصومات بالذراع صار جنته، تراجع الأب للوراء، لا قبل له بعنتريات ولده، ولا حيل له للدفاع عنه كل يوم أمام معلميه، مشاغله خارج البيت تكفيه، وصحته لم تعد كما كانت، استلمت الأم المشعل، وصارت هي من يتدخل كلما تسبب الولد في مشكلة في المدرسة، تستعطف المعلمين، وتتوسل للمدير، وتطيب خواطر التلاميذ وأهاليهم، وحجتها في ذلك أن الأب مريض، وأعصابه لا تتحمل المزيد من الصدمات، لم تكن تكذب، تجارة زوجها لم تعد كما كانت، مشغولات القصب تباع بصعوبة، والدكان يخسر كل موسم، زبناء يفضلون التردد على ورش كبيرة، ومتطورة، طلبات الأبناء زادت، والأب يتذمر من أقساط دراسة البنتين، ويتحدث عن إقعادهما في البيت، والاثنتان شاطرتان، ومؤهلتان أكثر من الولد لحمل العبء عنه، وتحمل المسؤولية المادية.

 أنهى دراسته الابتدائية بأعجوبة، يدفعه مدرسوه دفعًا، وتلهث خلفه أمه التي ذاع صيتها في مدرسته، لم يكن يخجل من إرسالها لحل مشاكله، ترك الأب الساحة له ليستعرض عنترياته أمام أختيه وأمه، يسبهما إن لم يرقه الطعام، ويبصق في وجههما إن ردتا عليه، ويمد يده عليهما، وينهر أمه إن حاولت الدفاع عنهما، هددهما بإخراجهما من الجامعة، وتوعد بأن يدفنهما بالحياة في الدار إن لم تسلماه منحتي تفوقهما، تحول إلى وحش يقض مضجع العائلة، ويخرب سمعتها في الحي، يتنفس أهله الصعداء عندما يخرج، ويضعون أيديهم على قلوبهم كلما عاد، لم ينه دراسته، ولم يتعلم صنعة، ولم يبحث عن شغل، ولم يدبر لنفسه شيئًا.

استطاب حياة الكسل والخمول.

يستيقظ في الظهيرة، ويستلقي أمام التليفزيون، يأكل، ويشرب، ويكلم أصحابه، ويشخط في أختيه، ويسب العالم، وما فيه بانتظار انحسار ضوء الشمس، وتبلعه ظلمات الليل حتى وقت متأخر، ليعود في غير وعيه إلى الدار التي يرتعد أهلها عندما توقظهم ضجته، أبوه لا يقوى على مواجهته، وأمه تتمتم بينها وبين نفسها بأدعية تثابر على حفظها لدرء عين السوء عنه، وهدايته، وتمكينه من كل ما يتمناه ويحلم به.

لم يكبر أبدًا.

بقي نفس الولد العابث الفظ الذي لا يرى أبعد من أنفه.

تخرجت البنتان، وتوظفتا، وتقدم لهما عرسان لقوا نصيبهم من جبروته، ونفذوا بجلودهم.

 رجل الدار بقي سيد أختيه، وتاج رأس والدته، وحامل اسم والده،

لم يتعب في شيء، لم يكن عليه أن يدرس ولا أن يعمل، لم يكن عليه أن يكبر، ذكر مثله لا يحتاج سوى أن يوجد، وعلى الآخرين أن يقوموا بكل شيء مكانه.