العرض التونسي "برج الوصيف".. واقع في حيز التأويل

28 صور

شيطان الجشع حين يقسم ظهر العائلة، وتبدأ خيوط الخداع تلتف حول أعناق الأخوة الذين ولدهم الرحم نفسه، ويتسيّد سلطان المال على الضمائر، فيسوسها ويستعبدها، فلا الأخ يآخي أخيه، ولا الأم تشفق على فلذات كبدها، هذه المؤامرات العائلية التي تفتت كل ذا محبة وودّ، وتستند على كتف الشر كله طمعاً بما ليس لها.
هذا ما قدمه وأخرجه التونسي الشاذلي العرفاوي بعرض "برج الوصيف"، والذي أداه كل من الفنانين "صلاح مصدق، سهام مصدق، شاكرة الرماح، صالحة النصراوي، عبد القادر بن سعيد، ومهذب الرميلي"، في الليلة الأخيرة من فعاليات مهرجان الأردن المسرحي في العاصمة عمّان.

في بداية الحكاية ونهايتها.. جشع لا ينام
يبدأ العرفاوي حكايته، بمشهد عن عيد ميلاد الأب "قارون" صاحب الملك والجاه في "برج الوصيف"، ثم تتوالى المشاهد التي تكشف عن طمع أحد أبنائه الاثنين بهذا المال الجاه، لابساً ثوب الدين والإيمان، الذي يحمل بيدٍ سجادة للصلاة، وبالأخرى بندقية صوب أخيه الأكبر والوريث الأول للأب "قارون".
أما الابن الأكبر، العاشق للخيل والفروسية، فكان الوحيد الذي لا طمع لديه بأبيه، لكنه يحيا على اليأس بعد خسارته سباقاً وموت حصانه الأفضل، البعيد عن مؤامرة أخيه وزوجة أخيه، والمبصر لهذه المؤامرة جيداً.
وتتشابك هذه العلاقات بين شخوص العمل، بتناغم واضح وانسيابية بالطرح البعيد عن الثرثرة المسرحية، علاقات إنسانية واضحة، بخيرها وشرها، تحمل موضوعاً مباشراً من الواقع، بصيغة مسرحية لا تخلو من الرمزية والدلالات، وليست فقيرة أبداً بالحالة الإبداعية التي عودنا عليها المسرح التونسي.

سينوغرافيا مدروسة.. وعين إخراجية ثاقبة
هناك فرق كبير بين أن تكون السينوغرافيا والإضاءة خجولة إبداعياً، وبين أن تكون بسيطة، وهذا ما قدمه العرفاوي في "برج الوصيف"، قدم سينوغرافيا وإضاءة غاية بالبساطة، لكنها مدروسة جداً ومحسوبة كل خطوة فيها، منسجمة مع العرض ودلالاته ورمزيته وواقعيته وأداء ممثليه بشكل مطلق، وهي من الأعمال القليلة في المهرجان التي استطاعت أن تحمل العمل والممثلين، لا أن تكون عبئاً عليهم، فاستعان بالكثير من المشاهد، بأن يرسم خط سير أو حوار الشخصيات من خلال مساحات إضاءة محددة، ولم تغلب العتمة إلا في حالات أرادها المخرج لتخدم العمل.

كما استخدم العرفاوي بعض الـ"ثريات" في عمق المسرح، بإضاءة خفيفة فيها، عبرت عن هذا المنزل الكبير، وسريراً على يمين منتصف المسرح، تنوعت استخداماته باحترافية إخراجية بالفصل بين المشاهد عليه، بحيث لا يدخل اللُبس إلى خيال الجمهور، ولا تتداخل الحكايات في منطقته.
أما عن رؤيته الإخراجية الثاقبة، فاستطاع المخرج أن يستفيد من كل أجزاء ومساحات الخشبة، صانعاً مشهدية بصرية ممتعة، وخالقاً العديد من الحيوات حتى في أصغر تفاصيل المسرح، ناهيك عن تحويل كل هذه الواقعية إلى عمل حداثوي إخراجياً، داساً رمزيته ومسقطاً العديد من التساؤلات على خيال المتلقي.

كسر حاجز "اللهجة".. ودهشة الممثلين
على الرغم من صعوبة فهم اللهجة التونسية لمنطقة بلاد الشام وأهلها، وتداخل اللغة الفرنسية أحياناً في الحوارات، إلا أن هذه الصعوبة لم تكن حاجزاً يحول بين الجمهور والعرض، فكلما تقدمت أحداثه، استطاع الحضور أن يستوعب أكثر هذه الحوارات وأن يتفاعل معها، كاسراً هذا الحاجز وقافزاً عن هذه العقبة وصولاً إلى متعة العمل التونسي.
أما أداء الممثلين، فكما عودتنا المدرسة التونسية في المسرح، بأن تقدم لنا ممثلين يدركون جيداً ما بين أيديهم من أدوات، يقدمون دوماً على خشبة المسرح قدرة إبداعية عالية، تؤكد ريادة هذه المدرسة، وتطورها الكبير والمستمر، واستطاع المشاركون في "برج الوصيف" التأكيد على هذه الفكرة بما قدموه من أداء موزون ومحسوب، مدهش لا ثرثرة في فعله الدرامي ولا نقص، وهم من أهم عناصر نجاح العرض.


إضافة إلى ما قدموه من واقعية كبيرة في الأداء ببعض الأحيان، حيث تفاعل الجمهور معهم بشكل كبير، معتقداً أن المشهد خرج من إطار التمثيل، فصفقوا حيناً وخافوا على سلامة أحد الممثلين حيناً آخر.
كما أجادوا في واقعية الأداء على الخشبة، استطاعوا أيضاً أن يصنعوا متعة بصرية عالية في شغل الجسد، رامين بأطراف الدلالة على أبصار الجمهور، يقلبها ويؤولها كما يشاء.