ليلة فقدان بيروت

محمد فهد الحارثي

 

 

لم تكن الأشياء كما عهدتها، ولم تكن الأماكن كما زرتها. مساحات ومبانٍ وأشخاص، لكنها تشتكي فقدان وهج الفرح وروح الحياة. بيروت بكل صخبها وعوالمها وضجيجها كانت شاحبة حزينة. شيء ما سقط منها وهي تمشي في الطريق.

أمشي في شوارعها وأرى غيابك الصارخ، هنا في هذه الزاوية كانت جلستنا، وهناك تركنا ضحكاتنا. يالصعوبة الغياب. لماذا تصر هذه المدينة على ندائك كل يوم، وربما كل لحظة؟.. لماذا أصبحت أسيرة لحضورك الذي غاب، وغيابك الذي لم يكن؟.

أتحدث مع الأصدقاء وأقابل من أقابل. حديثهم طلاسم وكلماتهم حروف متسلسلة. لم يملؤوا المكان ولن. شتان ما بين الحياة وشبهها.. بون شاسع بين حضور الصخب ومحاولة الحضور.

كاذبون، مزورون، يتقصمون الأسلوب، وهم ليسوا هم. أعرفهم وأتجاوز وأتجاهل. هكذا كما كنت أنت دائماً. تترفع عن الأشياء وتتجاوز. تسمو عن الصغائر وتبتسم. لم تنزل أبداً لصراعات الصغار. ولم تلتفت أبداً لمناوشات الداخلين الجدد على الحلبة. هكذا كبير حتى في حساباتك ومواقفك. لم تتفوه بكلمة نابية عن أحد ولم تشغلك القضايا الجانبية، سلاحك الوحيد الابتسامة، ورد فعلك مزيد من العطاء.

كنت تبتسم وتتعامل مع كل ليلة وكأنها الأخيرة، كانت علاقتك مع الحياة مختلفة. الكل يركض يتشبث بها، وأنت كنت تركض بحثاً عن الخلاص منها. كان الآخرون يختلقون الأعذاز ليتقربوا، بينما أنت قريب كما أنت.

يالصعوبة الأشياء وقساوة الزمن. في الحقيقة أن تعرف أكثر هي أن تتعب أكثر. بعض الأشياء تتمنى لو أنك لم تعرفها. وأحياناً تستغرب ذاكرتك الانتقائية اللئيمة، تتعبك بتجاهل أحداث وملامح وقصص، لتأتي عند تفاصيلك وتقف كالبلهاء متسمرة على المكان نفسه.

لا أدري هل غادرت بيروت أم هي غادرتني. وليكن. تفاصيل لا تعني لي كثيراً. حزمت حقائبي فنسيت أشيائي، ورحلت معي الذكريات..

اليوم الثامن:

المدن مهما تبدلت فهي ليست المباني والشوارع والضجيج

بل الروح والذكريات التي تنتظرنا على أرصفة الطريق..