ثمن العلاج

نجاة غفران

 

مرت ثلاث سنوات على زواجنا، وهي الآن تجمع أغراضها، رفقة أمها، ووالدها يتحدث إليّ منذ ساعات، وأنا لا أفهم ما يقوله، ولا أسمعه.

أشرب قهوتي المرّة، وأتساءل إن كان عليّ أن أشعل سيجارة أنا أيضًا.

حماي يدخن. أنا، لا.

ثلاث سنوات منذ تلك الصبيحة الحلوة التي اقتحمت فيها حياتي بعنف... بكل ما في الكلمة من معنى...

ثلاث سنوات...

أمتار قليلة كانت تفصلني عن موقف البنك؛ عندما ظهرت لي فجأة ولم أستطع تفادي الاصطدام بها.

لم تكن غلطتي. كانت تضع سماعتين على أذنيها وتخربش شيئًا على مفكرتها، وهي تدور في المنعطف مجتازة الطريق دون أن تلتفت يمينًا ولا يسارًا. تحوم الناس حولنا، وحضر الإسعاف، وتطوع كثير من المارة بأن يشهدوا لصالحي.

لم تكن غلطتي.

اتصلت بمحاميَّ بغيظ، وأنا أتخيل دوامة المشاكل والتعقيدات التي تنتظرني...

شخّص الأطباء كسرًا في قدمها، ورضوضًا بسيطة في بعض أجزاء الجسم. تعامل أهلها برقي معي. ليست المرة الأولى التي تؤذي فيها نفسها؛ بسبب شرودها وقلة تركيزها...

عرضت، بعد فترة من التردد عليها، أن أصحبها إلى حيث تعمل متى شاءت. كانت مصرّة على مغادرة السرير. قبلت عرضي على مضض بعد أن أصررت بشكل غير قابل للمناقشة عليه.

ماذا أقول... لم أستطع أن أقاومها. سريعًا وجدت نفسي مهووسًا بالشابة الجميلة الشغوفة بالرسم والمغرمة حد الجنون بالطبيعة والهندسة المعمارية والأشكال والألوان والحجر والتضاريس وكل هذه الأمور. أشياء لا تعني الكثير بالنسبة لرجل اقتصاد مثلي.

طلبت يدها. وحذرني والداها. ابنتهما فنانة. مزاجها متقلب. وعواطفها أيضًا. سبق لها أن خطبت مرات عديدة... وفسخت خطبتها بين يوم وليلة...

لم أفهم. حينها لم أفهم. صحيح... هي لا تمنحني أبدًا فرصة الحديث عن مشاغلي، ولكنني أعتبر الأمر طبيعيًا بالنسبة لشابة رقيقة ومرهفة الحس مثلها، تطغى عوالمها الداخلية على العالم من حولها...

كنت مستعدًا لأي شيء لنبقى معًا. أي شيء...

لم أقيد حريتها، لم أجبرها على اصطحابي في سفرياتها أو السهرات التي تدعى إليها، ولم أنتظر منها أن تقدمني إلى معارفها من الرسامين والمصورين وزملاء العمل. كانت واضحة من البداية. تودّ أن تحتفظ لنفسها بعالمها. ولم أعارضها...

لم أفهم كيف بدأت تضيق بحياتنا معًا. لا أدري... لم يكن الموضوع مطروحًا بهذا الشكل أمامي في البداية.

كان هناك صمت. فترات سكون طويلة لا أسمع لها فيها حسًا. وكنت أشعر بأنها ليست على ما يرام، وأن ثمة كآبة، وحزنًا، وضجرًا، واستسلامًا... في الجو. وكنت أبرر ذلك بضغوط عملها، وتقلبات نفسيتها كفنانة رقيقة مرهفة الإحساس. وحين زاد تباعدها عني، بدأت أفكر جديًا في الأمر، وأتساءل إن لم تكن بحاجة إلى مساعدة.

تفكيري العقلاني اللعين قادني إلى نتيجة واحدة.. مساعدة طبية.

أقنعتها بصعوبة بالخضوع إلى جلسات استرخاء نفسي لتحسين دورة نومها. منذ أن عرفتها وهي تشكو من الأرق. والوضع خلال فترة انعزالها الأخيرة ساء بشكل رهيب.

تذرعت بالأمر لأجعلها ترى الطبيب.

عشر جلسات كانت كافية ليقنعها سيادته بأن الداء يكمن فيَّ أنا. وبأنها تحتاج لأن تبدأ حياتها من جديد، بعيدًا عني، وتحقق ما تريد...

هكذا... بكل بساطة.

منذ ساعات ووالدها يثرثر، وأنا لا أستمع إليه.

طلبت الطلاق، وقالت إنها سترحل إلى إيطاليا، وتتابع دراستها الفنية هناك. ذلك ما تريده حقًا...

تتحدث مع أمها في الغرفة وهما تحزمان الحقائب. تتدفق كلماتها بحماس لم أعهده فيها من قبل...

وتضحك...

وأنا أمد يدي إلى المنضدة الخفيضة أمامي حيث هاتفي، وإبريق القهوة، والفناجين، وصحن الكعك الذي لم يلمسه أحد، وبعض أوراق المكتب، وفاتورة الطبيب النفسي التي لم أسددها بعد، وعلبة سجائر حماي... حماي السابق... وولاعته.

سحبت سيجارة من العلبة، وتناولت الولاعة..