فتاة الليل

نجاة غفران

 

لم يكد الترامواي يتوقف حتى رمت نفسها داخله، يكاد يكون خاليًا، راكب ضخم الجثة في قاع العربة، يعبث بهاتفه، آخر غير بعيد، يضع قبعة قطنية داكنة تغطي نصف وجهه، ويجلس بشكل مائل على المقعد المزدوج، ويمد ساقيه الطويلتين في الممر الضيق، وثالث عجوز، يرتدي ثيابًا أنيقة وينحني إلى الأمام متكئًا على عكاز بني لامع.

جلست غير بعيد عن المدخل، ووضعت حقيبة ظهرها أرضًا، وأراحت رأسها على ظهر المقعد.

تشعر بتعب لا يوصف، وتريد أن تغمض عينيها، وتنام.

رمقها العجوز بامتعاض، شباب آخر زمن، أي ملهى لفظها..؟ حالتها مريعة، بنطلونها الضيق ممزق، وحذاؤها الرياضي متسخ، وسترتها.. رباه.. منذ متى لم يمسسها الماء..؟ بقع القذارات تغطيها.. والإيشارب المرمي بإهمال فوقها لا يخفي الطيات المعوجة ولا الكرمشة الفظيعة..

دست سماعتيها في أذنيها وعبثت بإعياء في لوحة هاتفها. تحتاج لضجيج يبقيها مستيقظة، إن نامت ستفلت محطتها، وسيكون عليها أن ترافق الترامواي في دورته الصباحية على المدينة قبل أن تصل إلى وجهتها، أربعون دقيقة تأخير على الأقل، لن يغفرها لها أحد، ولن يتفهم ظروفها إنسان.

ضجيج.. تحتاج للكثير من الضجيج.

قلب العجوز شفتيه بازدراء وهو يواصل مراقبة الفتاة، أين أهلها؟ كيف يتركونها تتسكع طيلة الليل في الطرقات؟ أي بشر هؤلاء الذين ينجبون الأطفال ويرمونهم في الشوارع..؟

أين قضت الليل؟ ومع من..؟

ومن يرضى بمصاحبة متشردة قذرة مثلها..؟ كل ما فيها منفر، هيئتها.. لونها المخطوف.. عيناها الذابلتان المحاطتان بهالات داكنة تحكي الكثير عن ليالي عبثها.. شعرها الدهني القصير المتدلي كرأس مكنسة متسخة حول وجهها.. يداها النحيلتان اللتان تعبثان بانفعال بلوحة هاتفها النقال، هاتف عثرت عليه في برميل قمامة على ما يبدو، زواياه مكسورة، وصباغته متآكلة..

رفعت مستوى الصوت وهي تصارع النعاس، هذه الليلة أيضًا لم تنم أكثر من ساعتين، قريبًا.. قريبًا ستتنفس الصعداء، قال لها، إنها تسير في الطريق الصحيح، بدا مسرورًا منها.. ورغبت في أن تنال المزيد من رضاه.. وعرضت عليه أن تأتي اليوم أيضًا، زميلتها أخذت رخصة مرض، وهي مستعدة لتعويضها، وقادرة على ذلك.

لماذا يحدق فيها بهذا الشكل؟ يبدو.. يبدو في عمر «زبائنها» الجدد، رباه.. هل زميلاتها على حق؟ هل هؤلاء العجزة.. صنف آخر يصعب التعامل معه..؟

رفع ذقنه بأنفة وحدجها بنظرة متعالية، ما بالها تحملق فيه فجأة؟ هل تعتقد أنه يبحث عما في ذهنها..؟

يا للقرف..

نظر إلى ساعته، واستعد لمغادرة العربة، سيتوقف الترامواي أمام المستشفى، طبيبه بانتظاره، طبيبه العجوز.. من سيعوضه عندما يتقاعد.. وشباب البلد غارق في اللهو والعبث والسهر حتى الصباح..؟

تقدم نحو باب العربة بحذر، ولم يلتفت إليها.

 أوقفت ضجيج الهارد روك المزعج، وتناولت حقيبة ظهرها، وتبعت العجوز، لم يتحرك أي من باقي الركاب، حاولت أن ترتب خصلاتها، ووعدت نفسها بأن تأخذ دشًا عندما تعود إلى غرفتها في المساء، مذاكرتها ستنتظر.

عليها أن تفكر أيضًا في تنظيف ثيابها في نهاية الأسبوع.

 والآن.. الآن قسم كبار السن في انتظارها..

شهران فقط وتجتاز امتحاناتها النهائية، وتحصل على شهادتها،

شهران.. وتصبح دكتورة.

شهران فقط...