الطريدة

نجاة غفران

 

 

منذ زمن لم أخرج لأركض في الصباح الباكر، منذ أن بدأت كل الصحف تتحدث عن القاتل، متعقب النساء، ذلك المجرم المجهول الذي بلغ عدد ضحاياه ثلاث عشرة امرأة، ثلاث عشرة.. رقم منحوس.. يخيفني التفكير فيما يعنيه.. وما يمكن أن يتسبب فيه..

إنه خطأها.. لطالما أرعبتنا بقصصها السوداء عن الجن، وسوء الطالع، والشر الكامن في خبايا النفس الإنسانية، وكوابيس الليل التي تنقلب حقيقة في الصباح.. لطالما قادتنا إلى الجنون وضحكت من فزعنا.. وفرجت الناس علينا..

كل ما حدث بعد ذلك، كان خطأها.

تفرقنا بعد أن رحلت، ولم تسأل عنا..

ترى هل رزقت بأطفال غيرنا ؟ هل عذبتهم مثلنا؟ هل فكرت فينا يومًا.. وتساءلت كيف صرنا، وأين أصبحنا..؟

لا أدري.. ولا يهمني..

ما يشغل بالي أن الوقت حان لكي أخرج وأتنفس ملء رئتي في الصباح، وأعود لسابق عهدي.

خفت وتيرة الحديث عن القاتل، خلفت أخبارًا أخرى عن مسلسل مطاردته، ونسيته الصحافة، ونسيه الناس.

ارتديت قفازاتي ورميت السترة الجلدية الدافئة على طقمي الرياضي، ودسست جدائلي الطويلة في قبعة قطنية داكنة، وخرجت أجري والفجر لم ينبلج بعد.

زمان.. كانت تسخر من شعري الأشعث، وتردد أنني ورثت «رأس المكنسة المنفوش»، ذاك عن عائلة والدي، وكنت أبلع دموعي ولا أقول شيئًا.. ولكنني أول ما كبرت واشتغلت، ذهبت إلى مركز حلاقة كبير، وركبت جدائل كثة طويلة مثل تلك التي يتباهى بها فنانو الغرب على رأسي.. واحتفظت بها منذ ذلك العهد، ولم أزلها.

أينك يا ماما لتري ما فعلته بأحد أطفالك المنسيين..؟

ركضت بوتيرتي المعتادة وأنا أتنفس وفق توقيت زمني دقيق، أين باقي إخوتي..؟ لا علم لي.. افترقنا منذ زمن، ولم نحاول أن نسأل عن بعض، أو نتابع أخبار بعض، أنا على الأقل، لا فكرة لدي عنهم، ولا عنها، حياتي كانت كارثة، وستظل كذلك.

لا أمل لي في النجاة، ولا أهتم.

برد الصباح يتسلل كالإبر الحادة إلى جسمي، أركض وأركض باتجاه الضاحية، وأفكر..

كثيرون تهجموا على القاتل الخفي، وطالبوا الشرطة بإلقاء القبض عليه وإعدامه، ولكن بعضًا من الأصوات حاولت تبرير جرائمه، ضحاياه لسن نساء كباقي النساء، هن فتيات ليل.. زبونات حانات.. عربيدات.. خلص المجتمع من شرورهن وفضائحهن..

صحيح.. لم لا تركز الجرائد على هويات ضحاياه؛ بدلاً من جلده والمطالبة برأسه..؟

نور الصباح بدأ يلوح، ومصابيح شوارع الضاحية البحرية؛ حيث تصطف علب الليل والفنادق وصالات السهر، لا تزال مضاءة.

استدرت وأنا أجري وسلكت زقاقاً ملتوياً، ولمحتها..

امرأة تفتح بابًا خلفيًا في مبنى سكني وتنظر يمينًا وشِمالاً قبل أن تتسلل كالشبح وتسرع بخطا يثقلها حذاؤها العالي نحو رأس الزقاق.

سرّعت وتيرة ركضي واقتربت منها..

ثوبها الخفيف وشعرها المبعثر بإهمال على كتفيها العاريتين ينبئانني كيف قضت ليلتها.. ورفقة من..

 ألا تخاف..؟ ألم تسمع بما حدث لمثيلاتها؟ ألا تريد أن ترتدع..؟

اقتربت أكثر، والتفتت إليّ، وتملكني غضب جنوني وأنا أرى المساحيق التي سالت على وجهها المتعب.

مددت يدي إليها، ومرّ أمامي شريط حياتي الماضية.

ماذا فعلت بي يا ماما؟ ماذا فعلت بنا؟

خنقت صرخة المرأة بحنق بين كفي، وأحكمت قبضتي حول عنقها وضغطت، ضغطت حتى توقفت أنفاسها، وتركتها جثة هامدة، وواصلت ركضي.. وأنا أضحك وأبكي..

ماذا فعلت بي يا ماما؟..

أنا القاتل.. متعقب النساء..

 أنا المقتول..