جغرافيا الدماغ

نجاة غفران

 

كان يقول لي: «أستطيع أن أفهمك من نظرة. أقرأ ما يدور في خلدك وأخمن ما تفكرين فيه، ما تريدين قوله ولا تستطيعين، وما تقولينه وأنت غير مقتنعة به. أعرف كثيرًا من الأشياء عنك. بعضها لا تدركينه أنت بنفسك. الأمور هكذا، وعليك أن تتقبليها... وتثقي بي...».

لم أتقبل يوماً هذا الكلام. كان يثير أعصابي. وكنت أتساءل بعنف داخلي، لا أستطيع أن أبديه أمامه: «من يظن نفسه؟ لست شفافة لهذه الدرجة. ولا غبية. ولست بالتأكيد دمية خشبية يستطيع أن يدير مفتاحها متى شاء ويوجهها أينما رغب. لديّ شخصيتي الخاصة، وأفكاري وقراراتي التي لن أسمح لأحد بأن يشاركني فيها أو يتخذها بدلاً عني...».

 كان يستفزني بملاحقته الدائمة لي، وتدخله في خصوصياتي ومشاغلي...

قضينا ردحاً من الزمن في صراع. يشير عليّ بأمر وأفعل عكسه، فقط لأعارضه، وأثبت له أنني مستقلة عنه، غير محتاجة لآرائه ونصائحه. لطالما عضضت أصابعي؛ ندماً على قرارات خاطئة عقدت حياتي وسممت عيشتي، وأخفيت ذلك عنه كي لا يشمت بي، وكنت أعرف أنه لن يفعل، فهو يمرض عندما أمرض، ويخف عندما أخف، ويضبط حياته على إيقاع نجاحاتي وفشلي، ولا يسأم من ترديد الكلام نفسه لي: «أنا أحبك، ولا أرى في الدنيا بشراً غيرك، وأعرف ما تريدين، وأستطيع أن آخذ بيدك وأدعك تصلين إلى مبتغاك، ولكن... ثقي بي واصنعي ما أقوله. أنصتي إليّ مرة واحدة فقط وستكتشفين أن ليس ثمة في الدنيا من يفهمك مثلي، ويدرك ما يدور في دماغك الصغير، ويعرف ما يصلح لك وما يؤذيك...».

«يعرف...» تلك الكلمة التي كرهتها من كثرة ما سمعتها منه، وتأكدت من حقيقتها. كيف يستطيع ذلك؟ كيف تنفذ نظرته الفاحصة إلى أعماقي وتقرأ أفكاري وكأنني كتاب مفتوح أمامه؟ ألست امرأة بالغة مستقلة لا تعيش عالة على أحد...؟ أليس لي، تماماً مثله، عالمي الخاص واهتماماتي الأنثوية وأصحابي وخرجاتي ونوبات فرحي وجنوني...؟ لماذا أجده كلما التفتُّ محشوراً بين ثنايا خصوصياتي...؟ أهذه ضريبة العيش معه...؟ هذا معنى الحياة المشتركة...؟ أن يكون هناك شخص قريب منك تنكشف له كل أسرارك ومعاركك الداخلية الصغيرة والكبيرة، شخص يتدخل في حياتك كل لحظة، كل حين، ويصر على أن يبدي رأيه في ما تقولين وما تخفين، شخص يجبرك على أن تفعلي عكس ما يشير به عليك فقط لتثبتي له أنك لست هو... وأنك تملكين حرية القرار والاختيار...؟

لطالما تمنيت أن يرحل... ما ذنبي أنا إن ذهب الآخرون وبقيت وحدي معه...؟ ما الذي يجبره على أن يدير دفة حياته نحوي، وينشغل بي، وينسى أن يعيش...؟ خنقني فيض حبه وحنانه، وأثارت رعايته الدائمة جنوني، ولم أعد أرغب سوى أن أنزوي بعيداً في ركن قصي لا تنفذ إليه نظرته المتفحصة وبصيرته النفاذة...

وكان ما كان...

رحل بصمت. رحل فجأة على غير انتظار... وتركني أكتشف بمرارة عمق فراغ حياتي دونه.

لحق بالأحبة الذين سبقوه، وتركوني عهدة بين يديه. أو تركوه عهدة لديّ.

لحق بوالدتي وبأختي الصغيرة.

رحمك الله يا أبي. لكم ظلمتك. لكم كنت قاسية معك. ولم أدرك قيمة وجودك في حياتي.

لكم أحتاجك الآن... وأنا أرى نفسي أتخبط في مجاهل الحياة، ولا ناصح أميناً يوجهني ويأخذ بيدي ويكفكف دمعتي.

رحمك الله يا أبي. كنت محقاً.

 لا أحد يعرفني مثلك.