أين ينتهي البحر...؟

نجاة غفران

 

 

.عندما ينتبه إليه الناس، ينظرون إليه شزرًا، ويطردونه شر طردة. بعضهم يلوح مهددًا بقبضته، وآخرون يشتمونه، وثمة من يبصق عليه... وهناك أيضًا أولئك الذين يرمونه بالحجارة. ليس محبوبًا، ولا مُرحبًا به. يشعر بذلك ويبتعد... رغم أنه ينسى أحيانًا ويسير خلف المارة، ولا ينتبه إلا عندما ينتفضون بغضب ويشتمونه بقسوة ويأمرونه بالابتعاد...

غالبًا ما يدفعه الجوع إلى المغامرة بالتسول. يطلب لقمة، كسرة خبز، بقايا صحن، أي شيء لسد الرمق، وملء البطن الهزيل. وغالبًا ما يلقى الكثير من الأذى، من بني جنسه أكثر من الآخرين. لا يسمحون له بالاقتراب من معاقلهم، يطاردونه بوحشية ويجبرونه على الهرب والانزواء بجوعه في مكان بعيد عن مسرح عملياتهم. ويضطر للتكوّم حول نفسه وعصر بطنه والتنفيس عن جوعه بإصدار أنين رتيب لا يفتر إلا عندما تتخدر أطرافه ويغلبه النوم.

ذاك الصباح لمحه على الشاطئ. طفل صغير يمشي وحده، وفي يده طعام.

لم يكن هناك كثير من الناس حوله. بعض الأولاد يلعبون بالكرة، أشخاص يسبحون غير بعيد، وآخرون يتمددون على مناشفهم.

الطفل كان يمشي مبتعدًا عن الجمع الصغير.

تبعه ببطء. واستمرا في المضي نحو الطرف البعيد من الشاطئ... هناك... حيث لا مباني ولا حركة سيارات ولا بشر...

الصغير يخطو بسرعة، ولا يتناول طعامه. وهو خلفه... يتبعه الآن بسرعة أيضًا...

ويقترب... يقترب...

التفت إليه الطفل فجأة، وبدا مندهشًا، وابتسم. أجل ابتسم. لم يفزعه هزاله المرضي، ولا قذارته، ولا دمامته، ولا شعره المتساقط، ولا بثوره...

ابتسم... ومد طعامه له.

لم يتردد. ابتلع الأكل في ثوانٍ، وشعر بفرح الامتلاء، وقفز... وبدا على وشك أن يمسك السماء ويتدلى منها وكأنه يتأرجح.

ضحك الطفل وتوقف، واقترب منه، وتعلق به.

هزّ جسمه بفرح.

الصغير يحبه. الصغير يهتم به. الصغير لا ينفر منه.

ضحك الطفل وجرى، وجرى هو خلفه، وابتعدا أكثر وأكثر وصيحات فرحهما تشق أجواء الشاطئ المنعزل الذي أخذا يعبرانه... وتختلط بصوت الموج وصياح النوارس...

لأول مرة يشعر بأن شيئًا جميلاً لا يفهمه يحدث له.

طويلاً بعد ذلك... طويلاً... بعد أن قطعا مسافة كبيرة... توقف الصغير وهو يلهث ويضحك... وتوقف معه... وتعلقا ببعضهما... وسقطا أرضًا وضحكات الصغير تتوالى وتزيده مرحًا وبهجة...

غلبهما النعاس... وناما...

أصوات بعيدة تقترب. أصوات منفعلة تصرخ وتنادي.

انتبه هو أولاً... ونظر حوله.

جمع غفير من الناس يجرون نحوهما... يقتربون... يصرخون... أحدهم يحمل شيئًا... انهال به عليه بلمح البصر وانفجرت دماغه... ولفه الظلام.

«أيوب... صغيري... أأنت بخير؟ أين كنت؟ ماذا حدث؟»..

حضنت المرأة الشابة الطفل الذي استيقظ مرعوبًا، وقال الرجال من حولها: «انتهى أمر الكلب الأجرب. لقد قتلناه...».

«يجب أخذ الولد إلى المستشفى... قد يكون عضه أو خدشه... يحتاج إلى فحوص طبية...».

«هذه الكلاب الضالة اللعينة... لطالما طالبنا بالقضاء عليها»..

«سيدتي... لا تغفلي مرة ثانية عن طفلك... الله سلّم هذه المرة»..

«والله لم أغفل عنه» صاحت المرأة وهي تبكي «هي ثانية واحدة واختفى... اختفى... حبيبي أين ذهبت...؟ لِمَ ابتعدت؟» سألت صغيرها، الذي ردّ وهو يحاول التخلص من ذراعيها «ماما... أنتِ تخنقينني... ذهبت فقط لأرى أين ينتهي البحر... ووجدت صديقي... الكلب اللطيف... أين هو؟ هل سنأخذه معنا...؟».

تخلص الولد من حضن أمه والتفت ليرى الكلب الأجرب غائصًا في دمائه.... وصرخ بجنون.