قبلة شيفرة الحلاقة

نجاة غفران

 

لمحته وأنا أقلب صفحات المجلة التي اشتريتها في طريقي إلى الشاطئ، كان يفترش الرمل، ويرفع وجهه الأسمر الذي لفحته شمس البحر الحارة إلى السماء، ويبتسم.
شاب قوي البنية، متوسط القامة.
لم يكن هناك كثير من المستجمين في هذا الركن القصي من الشاطئ.
وضعت المجلة جانبًا، لا فائدة من النظر للعارضات الجميلات اللاتي يتبخترن في آخر صيحات لباس البحر، لا أعرف السباحة، ولن أستطيع في كل الأحوال أن أرتدي هذا النوع من اللباس، ولا أفهم لماذا اشتريت هذه المجلة أصلاً.
أختلس النظر إليه رغمًا عني، يبدو وحيدًا مثلي.. تائهًا.. حزينًا..
تنهدت وتمددت على مقعدي وسحبت هاتفي المحمول، لا رغبة لي في الاتصال بأحد، ولا في تتبع أخبار أحد، حركت أصابعي بسرعة على شاشة الهاتف الملساء، وفتحت لعبة كاندي كراش وانخرطت في جولة جديدة لم أستطع التركيز فيها تمامًا، رغمًا عني، أخذت أعيد التفكير للمرة الألف في القرارات الأخيرة التي اتخذتها.
كلفت شخصًا بالبحث لي عن مسكن قريب من مكان عملي، حان الوقت لأستقل بحياتي؛ بل تأخر.
الأربعون.. ولا أحد يطرق بابي.. والأهل يشكون ويتذمرون.
احتفلنا بزفاف أختي الصغرى منذ أسبوعين، لم يبق غيري في البيت، تزوجت أختاي الأخريان منذ سنين، وخطب أخي الذي يليني، وقريبًا، سنحتفل بزفافه هو أيضًا.
الأهل لا يتفهمون، الجميع يتساءل عما يحدث لي، أنا البنت الكبرى، ما الخطأ فيّ؟ لماذا ينبذني العرسان؟
ولماذا يجب أن يكون ثمة خطأ؟ أرد عليهم ولا أحد يكترث لما أقول، لم يعد المقام في البيت مع والدي وجيش الخاطبات اللاتي تتم دعوتهن دون استشارتي لفك نحسي ممكنًا، أريد أن أتنفس بعيدًا، أريد أن أحس بأنني إنسانة طبيعية لا تشكو من شيء.
قرار السفر لوحدي جاء موازيًا لقرار الاستقلال في السكن.
ألتفت إلى جاري، كيف لا يعبأ بأشعة الشمس الحارقة؟
أعبث بهاتفي، آخر صيحة في جيل الآيفونات، يجب أن أعترف بأنني لا أبخل على نفسي بشيء، ساعة يدي من أرقى الأنواع، أسورتي والخاتم الذي يتماشى معها كلفاني ثروة، فستان البحر والقبعة البيضاء الكبيرة ونظارتي الشمسية وحقيبة يدي، وحتى الصندل الخفيف الذي أنتعله من أفخم الماركات، لست ملكة جمال ولكنني أعرف كيف أعتني بنفسي، وأصرف راتبي المجزي بسخاء على ذلك.
شعرت بعينيه تتلصصان عليّ، وتملكني إحساس غريب، وخفت.
التفتُّ إليه، وحملق في خلف نظارته السوداء، أو هكذا خيل إليّ؛ فأنا لم أستطع أن أتبين عينيه.
شعرت بهما تلحان في النظر إليّ، وازداد خوفي.
لم يسبق لرجل أن حملق فيّ من قبل بهذا الشكل.
عدت إلى لعبة كاندي كراش، عبثت بها ثواني ثم قمت ورميت هاتفي في حقيبة يدي بعصبية وغادرت مكاني وقلبي يخفق بشدة.
الشاطئ لازال شبه خال، تمشيت بعيدًا وفستاني يتلوى حول ساقيّ ويعيق حركتي.
لم أكترث للأمواج المتكسرة عند قدميّ، ولا لركام أعشاب البحر وأنا أخوض في الماء وأبتعد، وقلبي يخفق بشدة أكبر.
شعرت به خلفي، لم أحتج للالتفات بشكل كامل لأراه.
خطا قربي وتوازت خطواتنا ونحن نبتعد ونسائم البحر الباردة المحملة باليود تخفف لهيب شمس أغسطس الحارقة، تمشينا بصمت، ولفتنا سكينة وهدوء عزلانا تمامًا عن العالم، ولم يعد ثمة شيء في الدنيا غيرنا، والبحر، وزرقته المائلة لخضرة غامقة، وطيوره المحلقة بعيدًا، وأمواجه المتكسرة عند أقدامنا.
مد يده فجأة إليّ وأمسك بيدي، وأوقفني، وهز ذراعه الثانية وشعرت بشيء بارد ورفيع يلمس خدي. 
"انزعي حليك على الفور، وهاتي حقيبتك..".
لم أفهم شيئًا، أردت أن ألتفت إليه، وأحسست بألم حاد في خدي: "ولا حركة.. وإلا شرطت وجهك بهذه الشيفرة.. وأنت لا تحتاجين لذلك.. هاه..؟ يكفيك ما لديك من.. نقص جمال.. أليس كذلك؟ هاتي الحقيبة".
أعطيته ما طلب.
أخذ الأغراض ومسح بظهر يده خيط الدم الرفيع الذي خلفته شيفرته: "لن أعتذر.. أنت بحاجة لعملية تجميل في كل حال.. هيا.. قد نلتقي مرة أخرى.. من يدري.. في ظروف أحسن ربما.."
انفجر ضاحكًا، وركض بعيدًا، وشعرت بساقيّ تنفلتان تحتي وارتميت أرضًا وأنا أبكي.