حياة جديدة

نجاة غفران

 

تلك الظلمة... ذلك السكون... ذلك الصمت... سنوات الانتظار الطويلة... قيظ الصيف... قُر الشتاء... الزمن الذي لم يعد له معنى... اليأس... الإحباط... الاستسلام... ثم الفرج.

تلك الظهيرة الربيعية الجميلة التي انحنت فيها عليّ تتأمل وجهي، وتبتسم، وتمسح عني الغبار.

«وجدته...» هتفت ولم ينتبه لها أحد...

كلهم كانوا منشغلين بتقليب قطع الأثاث المرمية حولي. السجاد الإسباني القديم برسومه الأندلسية التي تعود إلى الثلاثينات... الأطباق الصينية النادرة... الآلة الكاتبة المغبرة... صينية النحاس ذات الأرجل الثلاث... طقم الصالون المقلد من طراز لويس السادس عشر... أكواب الفضة المنحوتة برسوم نباتية غريبة... أطنان الجرائد القديمة... اللوحات... منحوتات الطين والخشب والحديد...

«إنها مغارة علي بابا...»..

«فتحت طاقية القدر لنا...»..

«رائع... فئران ورجال... كتاب شتاينبك المفضل لديّ... وجدته أخيرًا...» همست الشابة: «مازلت أتذكر يوم قرأه لي... مازلت أتذكر...» العائلة التي جاءت تتفحص محتويات القبو هي آخر من آلت إليه تركة الأستاذ شرف. انتقلت ملكية منزله بمحتوياته أولاً إلى زوجته، وابنه الذي يعيش خارج البلاد. لملمت الزوجة أغراضها وأقفلت البيت ورحلت لتقضي ما تبقى من عمرها رفقة ابنها في بلاد الغربة. لم يفكر أحدهما في أن يعود إلى الوطن مرة أخرى. مرت السنوات وانقضى أجل المرأة المسنة، وعاد بها ابنها ليدفنها قرب زوجها. قضى ليلة واحدة في البيت المهجور، ثم رحل مرة أخرى. ومضى زمن طويل آخر...

شاءت الأقدار أن يلقى حتفه في حادثة سير هناك. لم يترك وصية، ولا عائلة. عاش عازبًا منكفئًا على نفسه، مقطوعًا تمامًا عمن بقي من أقربائه. آل المنزل إلى هؤلاء الذين نقلوا جثة الابن إلى الوطن، وتكفلوا بدفنه قرب والديه. وجاءوا يستكشفون البيت الذي انتقل إلى ملكيتهم...

الابنة الشابة تجثو على ركبتيها، وسط الغبار، وتشرح بحماسة محمومة، وهي تقلب الصفحات: «بابا... أتذْكر عطلة نهاية الأسبوع تلك، عندما زارنا العم شرف... وانزوى في مكتبك... ورفض أن يجلس معنا... وأرسلتني ماما بصينية الشاي له؟ أتذْكر؟ وبختني يومها لأنني بقيت معه وأزعجت خلوته؟ هاه... هل تذكر...؟ يومها لم ينزعج. يومها قرأ لي أفضل كتاب عرفته في حياتي...».

الأب كان منشغلاً بتفحص التحف الكثيرة: «انظري إلى ماكينة الخياطة هذه يا عزيزتي..» قال لزوجته: «إنها من شركة سنجر.. أتعرفين؟ يقال إن بداخلها قطعة ثمينة جدًا يصل ثمنها إلى آلاف الدولارات...».

«معقول؟» ردت زوجته وهي تنظر حولها بنشوة: «ومكواة الفحم القديمة هذه... كم سيكون سعرها إن بعناها؟ ومطحنة القهوة النحاسية المنقوشة... إنها بديعة للغاية... وهذه الأطباق الصينية النادرة... رباه... هل كانت زوجة عمك تجمع التحف هي أيضًا؟».

«غير معقول... هذه الساعة الحائطية مرصعة بالأحجار الكريمة...»، صاح الشاب الأكبر سنًا «إنها تساوي ثروة..».

«ماما... ما هذا؟» سأل أخوه الأصغر. وتناولت الأم القطعة التي مدها لها وشهقت: «هذا إناء كحل بالمرود... من الفضة الخالصة. هذا جنون...»..

«يا أولاد...» نادى الأب مبتهجًا: «العم شرف ترك لنا ثروة حقيقية. سنبيع كل هذا... وسنبيع البيت أيضًا... لا مجال للسكن في هذا المكان النائي. نعم... الشاطئ جميل، والمنزل يطلّ على البحر... ولكننا لا نريد أن ننعزل، أليس كذلك؟ سنشتري فيلا في أرقى أحياء العاصمة... وسيحصل كل منكم على سيارة خاصة... وسنقضي إجازاتنا خارج البلاد...».

صاح الجميع وهللوا... وحضنتني الشابة وهي ترتجف...

«ألا تذكر يا بابا؟» سألت بصوت خفيض دامع، دون أن تنتظر ردًا... «ظل طيلة ذلك اليوم يقرأ لي الكتاب... وكان ذلك رائعًا... ومذهلاً... وعجيبًا... ووعدني بأن يعطيه لي يومًا ما... قال إنه يودّ أن يتركه لشخص يحبه ويقدره...».

سنوات طويلة وأنا سجين هذا القبو...

سنوات طويلة وأنا أنتظر روحًا كهذه... حبًا كهذا...

«سأعيد قراءته... وسأضعه في مكتبة المدرسة. سيسرّ كثير من تلامذتي باكتشافه. سيعجبهم. أعرف ذلك...».

صعدت درجات القبو بخفة وهي تحضنني، وسحبت كرسيًا إلى البلكونة المطلة على البحر، وجلست... وفتحت دفتري...

وعدت إلى الحياة من جديد.