أحلام البرية

نجاة غفران

 

 

  تتمنى أحيانًا لو تستطيع الذهاب وحدها... دونهم.

وحدها...

قطعتا ملابس تكفيانها. طقم جينز وسترة جلدية. ومرهم للوقاية من أشعة الشمس. ومفكرة السفر. والأهم... كاميرا التصوير الصغيرة. الكانون ريفليكس التي لا تفارقها. في البيت، في العمل، في جولات التبضع، في النزهة العائلية. هناك دائمًا أشياء تستحق أن تصوّر...

متعتها القصوى هي التصوير الفوتوغرافي..

في كل مرة تحل فيها إجازة الربيع، وتستعد العائلة للسفر، تجد نفسها في قلب دوامة تفسد عليها فرحة الابتعاد عن مشاكل العمل لفترة، وتعكر مزاجها.

يبدأ الضغط من اختيار وجهة السفر. زوجها يريد مكانًا قريبًا من الملاعب الكبرى، حيث يستطيع حضور مباريات كرة القدم، التي يشتكي دائمًا من اضطراره لتتبعها على التلفاز. لا شيء في العالم يشغله أكثر من الكرة اللعينة. سبق له مرارًا أن تخلف عن حضور مناسبات مهمة في شغله بسببها. لا مجال للتفكير معه في مكان قصي عن الملاعب. إما هذا... وإما... لا إجازة.

ابنه المراهق يسير على خطاه. يحضر مع أبيه كل المباريات التي يفلح في شراء تذاكرها، ويشترط هو الآخر أن تكون الوجهة قريبة من المدن الكبرى، حيث معارض الإلكترونيات ونقاط بيع آخر ما ظهر في مجال أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية وخوذات الأبعاد الثلاثية وما إلى ذلك...

وتأتي البنت أخيرًا. نقيض أمها. الصبية تفيض أنوثة وغنجًا. وعالمها مختصر في مساحيق التجميل وقصات الشعر وصيحات الموضة ووصفات التخسيس وطرق الحفاظ على رشاقة الجسم وجمال الطلّة. وهي أيضًا... لا تفكر البتة في وجهة بعيدة عن صخب المدن وأضوائها. لديها دائمًا لائحة بأسماء محلات دور الأزياء ومراكز التجميل ومصحات اليوغا والتدليك وصالات الرياضة التي تودّ التردد عليها...

الثلاثة يقطعون مئات الكيلومترات للهاث يمينًا وشمالاً، وسط ضوضاء المدن، وضغط مواصلاتها، وقذارة هوائها الملوث... وقضاء أسبوعين في جحيم مدينة يخرج منها المرء منهكًا، متوترًا، منشغل الذهن، مشدود الأعصاب...

أي إجازة هذه...؟!

وككل مرة... ككل عام... لا تفلح في إقناعهم باستئجار شاليه صغير على الشاطئ في منطقة نائية لا يتردد عليها بشر... أو بين المرتفعات وسط غابات الصنوبر الكثيفة في الشمال... أو حتى على قمم جبال الأطلس بين الثلوج... حيث لا يوجد ضجيج ولا أبواق سيارات ولا هواء ملوث ولا أضواء تعمي العين، وتجعل المرء لا يفرق بين الليل والنهار...

لا فائدة. الأب يحملق فيها كما لو كانت بلهاء ويستنكر غير مصدق: «وماذا نفعل طيلة اليوم؟ ننظر للسحب في السماء ونعد الحشرات؟ هل جننت..؟ وماتشات البطولة والدوري والكأس والمباريات الودية...؟» وابنه يتابع: «ومعرض النت وتخفيضات الإلكترونيك الربيعية؟» والبنت أيضًا: «لن أعيش أبدًا في الأدغال... عضات الناموس وكل تلك الحيوانات المقززة... ماما... أنت مهندسة... يفترض أن تهتمي أكثر ببشرتك ولبسك. لو تطاوعيني فقط... هناك خط أزياء مودرن للغاية خاص بالمرأة العاملة...».

تتساءل أحيانًا إن كانت فعلاً تنتمي إلى هذه العائلة...

إجازة واحدة في مكان بعيد، بعيد عن فوضى العالم المتحضر الذي يعشقونه...

تعانق الطبيعة، تتأمل السحب في السماء... لِمَ لا؟... تستمع للريح... تلتقط صورًا للأشجار، للعشب، للزهور البرية، للحشرات، للجبال، للثلوج، لآثار قدميها على الأرض...

لو تستطيع فقط...  .