اشتياق

نجاة غفران

 

عندما يجتمع الفقر والبؤس والإحباط والظلم وقهر الزمان.. يصعب على المرء أن يتمهل ويتزن ويفكر بطريقة سليمة، وعندما يكون الشخص المعني باتخاذ القرارات المصيرية فتاةً يافعة في مقتبل العمر، يصبح الوضع أسوأ، وتصير الموازنة بين ما هو صحيح وما هو خطأ أمرًا ثانويًا لا تلقي له بالاً..
أتحدث بالألغاز.. ولكن وضعي كان هكذا منذ خمس سنوات.
أنا الآن أتأهب لركوب سيارة أجرة باتجاه إحدى القرى العشوائية الفقيرة في ضواحي الدار البيضاء، أتنفس هواء الوطن بعد خمس سنوات من الغربة، أمد وجهي من خلال زجاج نافذة السيارة إلى أشعة شمس أغسطس الحارقة، اشتقت لهذا القيظ، الله يعلم كم اشتقت له.
السائق يسترق النظر إليّ بذهول، وأنا أبتسم بنشوة، وأطلب المزيد من الحر، والقيظ، والهواء الناشف، والسخونة الخانقة.
ذات ظهيرة بعيدة تشبه هذه، قطعت المسافة الفاصلة بين قريتي ومطار المدينة الدولي في الاتجاه المعاكس، هربت خفية وأنا أرتجف، ولم أكن أكترث للأجساد التي كانت تعصرني في الحافلة المزدحمة بالركاب، كنت أقف في الممشى بين صفوف المقاعد، أتشبث بالعمود الحديدي بيد وأمسك بالأخرى حقيبتي الصغيرة، التي وضعت فيها كل أوراق السفر.
عمتي جهزت لي كل شيء، رغمًا عن أنف أخيها.
الحكاية بدأت من زمان، قبل ولادتي على ما يبدو.
هاجرت عمتي إلى ألمانيا، ذهبتْ إلى تلك البلاد البعيدة رفقة أسرة من الألمان عملت لديهم فترة، وعرضوا عليها الذهاب معهم إلى بلادهم، لم يوافق أحد من أهلها على الأمر، لكنها لم تكترث، مكثت هناك طويلاً، لم يغفر لها جداي أبدًا تمردها عليهما، وبعد وفاتهما استمر والدي في تجاهل محاولاتها للصلح.
كان يعمل في ورشة الحدادة التي أفنى جدي، رحمه الله، سني عمره فيها، جراج مظلم من الألواح المعدنية المثبتة في الأرض بدعامات من الحديد الذي أكله الصدأ، يتزاحم فيه ستة أو سبعة عمال يضربون الحديد طيلة اليوم أمام فرن ساخن وأجسادهم المتسخة تتفصد عرقًا، كنا فقراء، والدي كان يكسب بالكاد قوت يومه، وكنا سبعة أطفال، خمس بنات وصبيان، وأتذكر أن والدي كان يستشيط غضبًا كلما جاءه مُرسَل من عمتي، كانت تعرض عليه أن تتكفل ببعضنا، وتأخذنا لنعيش معها هناك، في الغربة، وكان والدي يصرخ مستنكرًا بأنه يفضل أن نفترش الأرض الباردة ونقتات بالماء وكسر الخبز على أن يبعثنا الى أخته العاقة التي فضلت أن تخدم الغرباء وتعيش على فضلاتهم، على البقاء بعزها بين أهلها وأحبابها.
لم تكمل أختاي اللتان تسبقانني تعليمهما، وكان من المفروض أن أنحو نحوهما وأقعد أنا أيضًا في البيت وأترك الفرصة لإخوتي الصغار لينالوا هم أيضًا حظهم من التعليم، لم يكن والدي قادرًا على شراء كتبنا وتحمل مصاريفنا الدراسية وإن كانت ضئيلة. 
لحسن حظي، مكنتني نتائجي المتميزة من الحصول على منحة خاصة لمتابعة تعليمي، نلت شهادة البكالوريا بميزة مشرفة للغاية، وقال والدي إن الوقت حان لأساعده في مصاريف البيت، وبدأ يبحث لي عن عمل، أي عمل، في نفس الفترة، اتصلت عمتي وعرضت علي أن أذهب إلى ألمانيا لأواصل دراستي هناك، رفض والدي عرضها، واستمرت في الإلحاح عليّ، ولم تجد صعوبة في إقناعي بقبول عرضها، لم تكن لدي أية رغبة في دفن طموحي.. أنا التي كنت أحلم بمتابعة دراساتي العليا والتخصص في مجال علمي مرموق.
تركت عمتي تتكفل بأمور السفر، وغادرت البلاد ودعوات والدي عليّ تلاحقني.
خمس سنوات وأنا لا أعلم شيئًا عن أسرتي التي قطعت علاقتها بي بشكل نهائي.
خمس سنوات.
غادرت سيارة الأجرة وأنا أجر حقيبتي خلفي، لم تتغير القرية، صفوف الأكواخ العشوائية المبنية من بقايا الأخشاب ومخلفات المصانع، والمغطاة بأسقف من البلاستيك المكسر والحديد المموج والورق المقوى، تمتد على مرمى البصر.. يتخللها شريط أزقة ضيقة تملأها الحفر وأكوام التراب وبقايا القمامة والفضلات وبرك الأوحال.. بشر منسيون هنا وهناك، وأصوات أطفال يلعبون كرة القدم في الفراغات النادرة بين الأكواخ.
تطلعت الوجوه الكالحة إليّ، وجرت بعض النسوة نحوي وأخذنني بالأحضان، وصاح الأطفال من حولنا، وانهمرت الدموع.
واصلت طريقي بصعوبة نحو بيت أهلي، ورشة الحدادة لم تكن بعيدة، التفتّ إليها، بعض الصبية كانوا يجرون نحوها، تبعتهم وأنفاسي تتسارع.
رأيته فجأة يقف عند باب الورشة، وبدا لي كبيرًا في السن، كبيرًا لدرجة مخيفة، معقول..! خمس سنوات تحني الظهر بهذا الشكل؟ وتفقد الوزن، وتشيّب الشعر، وتغير الملامح..؟ كأنه ظل أبي، بقايا أبي، نسخة باهتة عن الرجل القوي المتوثب الذي كنت أعرفه..
رميت حقيبتي وجريت نحوه والألم يعتصر صدري، وفتح لي ذراعيه واحتضنني وهو يسعل بشدة، ولمحت بين دموعي عمال الورشة يتطلعون إلينا بفضول، نهرهم والدي، وتنهد، ودس يده في جيب بنطلونه وجذب خرقة مسح بها دموعه، وانحنيت ألتقط الورقة التي سقطت من جيبه، وأنظر إليها وأنا أمدها له.
صورة قديمة لي.
صورة فوتوغرافية مطوية على أربع.
أجهشت بالبكاء.. ووضع والدي الخرقة أمام فمه واستسلم لنوبة سعال جديدة.