الثقب الأسود

نجاة غفران



«كانت بداية أسبوع عادية... ككل بدايات أسابيعي. عدلت وضع ربطة عنقي بعناية وأنا أصفف شعري أمام المرآة. ورششت العطر حول سترتي. من يدري... ربما تنتبه إلى أخيراً. ربما تحس بوجودي.
غادرت سكني وتوجهت نحو خط الترام، الذي سيقودني إلى مقر عملي.


مررت في الشارع المزدحم بالسيارات والباصات والمشاة المنطلقين إلى أشغالهم. موظفون مثلي، وعمال، وطلاب مدارس، ومتسكعون أيضاً. فرغم رقي المكان الذي تصطف على جوانب شوارعه الواسعة بنايات أنيقة تعكس واجهاتها الزجاجية اللامعة ارتفاع مستوى عيش ساكنيها، هناك الكثير من المتسولين والعاطلين الذين يجوبون الطرقات أملاً في جني بعض الدراهم.


بلغت موقف الترام دون أن يلتفت إلى أحد. لست ممن ينتبه الناس لهم. لا أدري لماذا. رغم أنني أحرص على الاستحمام كل صباح، وارتداء أطقم أنيقة معطرة بأفخم العطور. أهي ملامحي الغليظة...؟ أم شكل قوامي غير المتناسق...؟ رغم ساعات الرياضة الطويلة في الصالة القريبة من البنك... أم هالة السذاجة وانعدام الثقة التي تلفني ولا أستطيع التخلص منها...؟ ما رأيك دكتور...؟ نعم... نعم... أعرف بأنه ليس موضوعنا... ولكن... حسنا... ركبت الترام المزدحم وشققت طريقي بين الناس لأصل إلى النافذة. لم يقل أحد شيئاً ولم أعرف كيف صرت لا مرئياً لدرجة أن اندساسي بين ركاب الترام مر دون احتجاج...؟


بلغت محطتي ونزلت وتوجهت رأسا نحو مقهى الستاربكس الغاص بالموظفين. التحدي التالي كان كيف أحظى بخدمة النادلة الشقراء الجميلة دون غيرها. أجد نفسي كل مرة احتال بألف طريقة وطريقة لإبعاد زميلاتها...
رفعت رأسها قبل أن أجد حلاً، والتقت عينانا وابتسمت لها. يا إلهي... تلك العيون... وتلك الشفاه... وتلك الخدود المحمرة... وذلك الشعر... ذلك الشلال الأصفر الذهبي...
«نعم... حفظنا القصيدة...» صاح عمران... ذلك اللعين... وتوسل للدكتور «هيا دكتور... إنهِ الأمر... هل تريد تعذيبنا؟»
أشار إلى الدكتور لأتابع، وقلت وأنا أنظر شزراً لجاري في الغرفة «وأنا أنظر إليها وأذوب... أذوب فعلاً... حدث أمر عجيب. رأيتني أخرج من جسدي وأذهب إليها... هكذا يا دكتور... صرت اثنين... واحد جالس في منضدته... والآخر منطلق للقاء النادلة الجميلة...، وبعدها... بعدها لا شيء. فراغ كامل في ذاكرتي. ثقب أسود عميق...»


«وكواكب ونجوم ومجرات...» عاد عمران يقاطع «ما هذا الهراء؟ خلصنا يا دكتور... جنابه لا يريد أن يعترف بأنه استدرج البنت خارجاً واعتدى عليها وكاد يخنقها لولا انتباه أحد المارة لما كان يحدث خلف براميل القمامة في الجهة الخلفية للمقهى... أليس هذا ما يقوله تقرير الشرطة؟ ضربة عمود الحديد التي طرحته أرضاً لا يمكن أن تنسيه تفاصيل جريمته المروعة. لا أفهم كيف أرسله القاضي إلى هنا... مجرم بخطورته يمكن أن يفعل أي شيء... نحن لسنا في أمان...»
«كفى عمران... كفى...» صاح الدكتور وطمأنني «لا تلق بالاً له. لديه ثقبه الأسود هو الآخر. لنرى عمران... ما الذي تتذكره عن حريق منزل والديك. كيف اشتعلت النار في غرفتهما تلك الليلة......؟»
لم ألق بالاً لاحتجاج عمران العنيف، ولا لارتباك زملائنا في حلقة الكلام التي ينظمها لنا طبيب مستشفى الأمراض النفسية كل أسبوع. أخذت أفكر فيما قيل لي وأنا أتلمس الندبة التي خلفها جرح عميق أعلى رأسي. ما الذي حدث تلك الصبيحة؟ لماذا يرفض الجميع تصديقي...؟ لم أغادر منضدتي... رأيته يخرج من جسدي ويذهب إليها... رأيتهما يغادران المكان معاً... ولم أتحرك... ولم أشعر بشيء... ولم أفكر في شيء...
ولا أتذكر ما حدث بعد ذلك...