الحب بعيون حمقاء

نجاة غفران


هناك أيام تشعر فيها بأنك لا تذهب إلى العمل، وإنما تساق إلى المقصلة. بالكاد هي تبالغ. فالجو في المكتب صار لا يطاق. رئيسها ذو النزعة العنصرية البغيضة يتحملها بالعافية. ويبذل جهده لتحويل دوامها اليومي إلى جحيم حقيقي. وهي لا خيار لديها، فإما أن تتحمله، أو تترك عملها وتموت جوعًا.
عندما حصلت على الحكم القضائي الذي أجبر مشغلها على إعادتها إلى وظيفتها، وتقديم تعويض سخي لها على الأشهر الثمانية التي حرمها فيها من راتبها، ظنت أن مشاكلها حلت، ووضعيتها عادت لما كانت عليه. ولكنها لم تحسب حساب طبيعة بعض البشر الانتقامية. الرجل حلف بأن يجعلها تطرد نفسها بنفسها. أوامره لا تنتهي، والشغل الذي يكلفها به يفوق طاقتها، ومعاملته الفظة لها تزيد الأمور سوءًا، وشلة تابعيه الذين يرمونها بسهامهم السامة بمناسبة وغير مناسبة يقودونها للجنون. طبعًا، بإمكانها اللجوء ثانية إلى جمعية مناهضة العنصرية، ولكنها لن تقضي وقتها في المحاكم، ولا رغبة لها في لفت انتباه الإعلام والتحول إلى خبر صحفي، بل وقرد فرجة... يلاحقها المارة بنظراتهم وكأنها في سيرك.
حينما هاجرت إلى السويد، ظنت بأن الدنيا فتحت ذراعيها لها. الشركة المعمارية التي منحتها عقد العمل معروفة. وصاحبها رجل مسن لم يلبث أن ترك العمل لبعض أقاربه بعد أن أصيب بجلطة دماغ. أمورها ساءت حين استلم الإدارة قريبه العنصري البغيض، الذي أوقف نظام منح العقود للأجانب وتشدد مع موظفيه القادمين من خارج البلاد. وكان أن اصطدم معها، ولم تقبل معاملته، وساءت العلاقة بينهما لدرجة تسريحها دون مبرر حقيقي. وهي الآن، بعد شهور من المعاناة، في مكتبها الأصلي. لكنها ليست على ما يرام. وكل ما بنته من أحلام عند وصولها إلى «ستوكهولم» تبخر، ولم تعد لها رغبة في البقاء في وظيفتها، ولا حتى في البحث عن عمل آخر.
وقفت تنتظر القطار وهي تتمشى بمحاذاة الرصيف، وتحاول إيجاد حل لكل هذا. تعود للوطن؟ بعد ماذا؟ ليست متأكدة من أنها ترغب في ذلك. أمور كثيرة تعودت عليها هنا. بما في ذلك الجو البارد الماطر. تتذكر حرارة الشمس هناك، وصعوبة الحصول على وظيفة، ولسع كلام الناس... خصوصًا هذا... كلام الناس. «متى سنراك في بيت زوجك؟ ماذا تنتظرين؟ العمر يمر... وأنت لا تصغرين...».
هنا، رغم بعدها عنهم آلاف الكيلومترات...
يصلها صدى هذا الكلام، وينرفزها.
رفعت عينيها الذابلتين من العياء، سهرت طيلة الليالي الأخيرة على العمل الذي طلب منها، قبلت المهمة دون أن يرفّ لها جفن، رغم أنها فوق طاقتها. كان بإمكان الرئيس تكليف أحد زملائها بالعمل معها، لكنه أراد أن يطحنها، وهي قبلت التحدي بعناد.
غير بعيد عنها بعض الركاب، أحدهم يحدق فيها منذ فترة، وهي انتبهت له، ورمقته بفضول.
رجل في الأربعينات، بمعطف أنيق، ومحفظة وثائق سوداء، وملامح وسيمة.
ابتعدت قليلًا، واقتربت من سكة القطار، وأخذت تتمشى جيئة وذهابًا، وهي تختلس النظر إليه.
ماذا يريد منها...؟!
لم يسبق أن انتبه إليها شخص قبله. لكن... هل يمكن اعتبار تحديقه فيها انتباهًا...؟!
ماذا جرى لها؟ ليالي السهر جعلتها تهذي وتختلق الروايات على ما يبدو...
اقترب القطار، ولم تشعر وهي تتحرك صوبه إلا برجال أمن غلاظ يتلقفونها كما لو كانت بالونة ويجرونها بعيدًا وهم يصرخون بصوت عالٍ والناس يلتفون حولهم.
أخذوا يمطرونها بالأسئلة... وقلبت نظراتها فيهم برعب، ولمحت بينهم الرجل الأربعيني الذي كان يهزّ رأسه بشدة ويؤكد بين السؤال والآخر: «نعم سيدي، إنها المرأة التي أخبرتكم عنها... كانت تتأهب لرمي نفسها تحت القطار... ليست على ما يرام... انظروا لوجهها الشاحب ونظراتها الزائغة... تريد الانتحار... أنا متأكد من ذلك... إنها حمقاء...».
انفجرت ضاحكة وهي تسمعه.
هي فعلًا حمقاء.. لا مجال للشك في ذلك.