الراحلون إلى السماء

شهرزاد


الراحلون إلى السماء هم أولئك الذين تتعلق في وجودهم طفولتنا، ثم يجرفهم تيار الغياب بعيداً عنا، ليكبر بنا حجم علامات الاستفهام حين تصبح أماكنهم شاغرة منهم، فنبحث عنهم في أماكن اعتادت أن تشهد حضورهم، ونفتقدهم في تفاصيل اعتدناها منهم، ليخبرنا الأكبر سناً أنهم رحلوا إلى السماء، فهذا هو الوصف الأسهل والأرحم لقلوب صغيرة لا تستوعب معنى الموت، ومعني أن تختفى وجوه أحببناها إلى الأبد.
وقد كنت طفلة حين قيل لي إن جدتي رحلت إلى السماء، فكنت أتعمد اللعب تحت المطر بأقدام حافية، ثم أتوقف قليلاً وأطيل النظر إلى الأعلى، بانتظار أن تلوح لي جدتي بيدها غاضبة مني، وتأمرني بحب كما كانت تفعل على الأرض أن لا ألعب تحت الماء.
لكن لا أحد كان يطل من الأعلى، فبدأتُ أدرك أن لا نوافذ بيننا وبين السماء، وأن النجوم ليست مجموعة من الأعين مزروعة في السماء كما كانت جدتي تخبرنا في حكاياتها التي كانت تسردها علينا قبل النوم.
ويومها بدأتُ أشعر بالقلق من أن تكون جدتي قد تاهت فوق الأرض، ولم تصعد كما أخبروني إلى السماء.
فتوقفت عن اللعب تحت المطر، وعن النظر إلي الأعلى كلما بللتني الأمطار، وأصبحت أنتظر العائدين من السماء كي أسألهم عن جدتي، وهل غضبت حين رأتني ألعب بأقدام حافية تحت الماء، لكن لا أحد كان يعود من السماء، الجميع كان يرحل، وكانت طفولتي لا تستوعب أن يرحل أحدهم بلا عودة.. وأن يختفي إنسان ما إلى الأبد، وأن تبقى خلفه مقتنياته المفضلة التي حرص على خصوصيتها متاحة للجميع، دون أن يغضب من اقتراب أحدهم منها.
لكني حين كبرتُ أدركت أن الجميع ينزل إلى الأرض، وأن لا أحد يصعد إلى السماء بأجنحة بيضاء كما كانوا يقولون لنا، حين كانوا يشرحون لطفولتنا مفهوم الموت، وبدأت أدرك متأخرة قيمة تلك البقايا البسيطة التي تبقى خلف الذين يغادرون الأرض، ووددتُ معرفة مصير ملابس جدتي، وعصاتها الخشبية، وحذائها خفيف الوزن، وعلبتها المعدنية التي كانت تضع فيها أدويتها الكثيرة، وتلك الإبرة التي كانت تطلب مني إدخال الخيط في ثقبها حين بدأ النظر يخذلها، وتمنيتُ لو أنني احتفظتُ بقنينة صغيرة من عطرها،
لكنني حين رحلتْ كنتُ صغيرة جداً، أصغر من أن أمد يدي لشيء من بقايا جدتي كي أحتفظ به كذكرى من امرأة مرت الأرض لتمنحني الكثير من الحب، والكثير من الفرح، والكثير من الأمان، والكثير من السلام الداخلي. 
قبل النهاية بقليل:
وكأنه مع كل عودة للمطر.. تعود جدتي إلى الحياة.