الفتاة التي لا تراني

نجاة غفران


حاولت المتدربة الجديدة بكل الطرق أن تنتقل إلى مكتب زميلتي. لم ترغب في العمل معي. كانت واضحة من البداية، وأنا احترمت رغبتها ولم أصر. لكن إدارة الجريدة رفضت نقلها، وخيّرتها بين البقاء معي أو البحث عن فرصة تدريب في مؤسسة أخرى.
رضخت زهراء للأمر، وبدأت فترة اشتغالنا مع بعض بشكل غريب. أقول اشتغالنا مع بعض... فأنا لم أحاول أبدًا أن ألعب دور الرئيس معها، وأمطرها بالأوامر والتعليمات. بقيت على طبيعتي... أتركها تبادر وتقترح وتنفذ وأصحح بعض هفواتها بلطف ومرح. ولم أفلح في كسر الجدار الجليدي الذي أحاطت نفسها به. لم أحظَ يومًا بإشارة دافئة تشعرني بأنها ارتاحت للعمل معي، واستفادت من بعض ما أقدمه لها من نصائح وتوجيهات مهنية. زميلتي في المكتب المقابل علّقت ساخرة بأنني أبالغ. الفتاة مستمرة معي على مضض، ومن الواضح جدًا أنها لا تطيقني... لماذا إذن أحني ظهري لها وأتصرف بسذاجة وكأنني لا أفهم شيئًا من إشارات نفورها مني...
زميلتي هذه قامت بدعم قرار الإدارة ورفضت استقبال زهراء في الأوقات التي كانت تخطفها لتلجأ إلى مكتبها. «البنت ترفض العمل مع الرجال. لديها عقدة من ذلك. ولست أنا من سيتولى علاجها... ولا أنت. افهم الأمر وريّح نفسك. لست مسؤولًا عن أمراض الناس، ولا يمكنك إصلاح العالم ولو أفنيت عمرك في ذلك...» كلام زميلتي الذي لم تكف عن ترديده لي ونحن نتناول الغداء في مقصف الجريدة.
زهراء نادرًا ما تخالطنا. تأتي بأكلها وتنزوي في المكتب، مديرة ظهرها لي وللعالم.
لست أدري، ولكنني أشعر بشفقة على الفتاة. أرى فيها البنت التي لم يرزقني الله بها. فهي ذكية، متفانية في عملها، جادة في كل ما تقوم به... عيبها الوحيد جفاؤها غير المفهوم مع الزملاء الرجال، وحرصها على تجاهلهم وكأنهم بكتيريا قد تصيبها بعدوى إن اقتربت منهم، أو ردت على سلامهم ولو بانحناءة رأس.
ورغم كل حرصها، لم تستطع الاعتذار عن غداء عمل بعثتنا الجريدة إليه. لم يكن المطعم الذي نقصده بعيدًا، لكن الجو المتجهم كان ينذر بالمطر. تمشينا معًا وكل منا يحمل مظلته، ولم أجد صعوبة في اللحاق بها وهي تكاد تطير لتبتعد عني. أمسكتها في لحظة ضيق من ذراعها وانتثرت غاضبة وانفلتت مني: «من تظن نفسك؟ كنت أعرف... كنت أعرف أن الأمر سيقع... لا تستطيعون منع أنفسكم من ذلك... أليس كذلك؟».
حملقت فيها بدهشة: «عَمَّ تتحدثين يا ابنتي؟ ماذا بكِ؟ أحاول فقط...».
«ابنتي...؟ لم تعد اللعبة تنطلي عليَّ. كلكم سواء. تتحرشون كل الوقت. مكتب الشرطة غير بعيد... أتعرف ذلك؟ تبًا لكم...».
وقفت أنظر للفتاة بذهول وهي تبتعد وبعض المارة يتطلعون إليَّ بريبة.
زميلتي محقة. البنت ليست على ما يرام. ولست أنا من يستطيع مساعدتها. 
تبعتها بصمت، وحضرنا موعد الغداء وكل منا يتفادى النظر إلى الآخر.
فكرت في أنه كان من الأفضل لو لم تحضر. فهي لم تفتح فمها ولم تحاول الاشتراك في النقاش ولو بشكل صوري.
بعد الوجبة، ودعنا الضيوف وسبقتني خارج المطعم، وفتحت مظلتها، وتبعتها وأنا أشعر بالغباء. كانت تمطر بشدة، وكل منا يحتمي بمظلته ويسير متجاهلًا الآخر.
توقفت سيارة أجرة قريبًا مني، ونزلت منها سيدة تحمل أكياس أغراض ثقيلة. هرعت إليها وحميتها من الأمطار بمظلتي، وعرضت عليها أن آخذ الأكياس عنها. مدتها إليَّ بعجلة وهي تحاول أن تصلح تصفيفة شعرها التي ابتلت قليلًا. كان من الواضح أن ذلك كان كل ما يشغلها. أشارت بيدها إلى بناية قريبة وانطلقنا نحوها... وهرع البواب ليأخذ عني الأكياس، ودخلت المرأة دون أن تلتفت إليَّ وقصدت المصعد.
خرجت وقد ابتلت ذراعي وجانب من ثيابي، ووجدت زهراء واقفة تنظر إليَّ والمطر يسيل على مظلتها بغزارة.
«أتفعل هذا دائمًا...؟ لم تشكرك حتى...».
ابتسمت وقلت وأنا ألقي نظرة خاطفة على ساعتي: «كانت مشغولة. كان الله في عونها. أتعرفين يا ابنتي... لا يجب أن تكوني قاسية على الناس في أحكامك. مرة أمسكت الباب لرجل وأنا أغادر دورة المياه في مركز تجاري، وكنت محملًا بالأغراض، ومضى الرجل دون أن يقول شيئًا، وناداه شاب خلفنا ووبّخه: «يا أخي... قل شكرًا على الأقل. السيد أسدى لك معروفًا وهو مثقل بالأغراض».
ولم يرد الرجل، لكنه أخرج مفكرة من جيبه، وخطّ شيئًا عليها ومدّها لنا: «آسف... أنا أبكم... وأقدّر مساعدتك سيدي...».
حملقت في زهراء، وابتسمت وقلت لها: «لا تكوني قاسية على الناس. هيا.. لقد تأخرنا... فلنسرع...».
تبعتني... وشعرت بأنها تراني للمرة الأولى منذ أن تقابلنا.