النُسَخ القَديمة

شهرزاد


كنتُ أظنُّ أن لا أحد يَنْجَح في مُغادَرةِ إطاره القَديم، وأن لا أحد يتسرَّب من ألبوم صوره القديمة، وأن كل التفاصيل تبقى في زواياها كتماثيل، وفاء على الطُقوس المُشْتَركة بين الأرواحِ المُتَقارِبة، وأن الأمْكِنة القَديمة هي الأوْطان التي لا تَغْلِق أَبْوابها في وجوهنا أبداً، وأن الرِفاق القُدامى هم أَبْطال أعْمارنا الذين لن تتغير أدْوارهم في حياتنا مَهْما مرَّت الأيّام، وأننا حين نفكر بالعَوْدةِ إليهم سنجدهم في المكانِ ذاتِهِ وعلى الهَيْئة ذاتها، فالزَمَنِ الذي يَمُرُّ بسواهم لا يجب أن يمر بهم، ولا يجب أن يُغيرهم داخلياً مهما غيَّرهم خارجياً ..


لكن يَبْدو أن لا أحد يحتفظ بنُسْخته القديمة، وأن الصور تغادر لوْحاتها وتقفز خارج إطاراتها على غَفْلةٍ منا، وأن أماكننا الُمفَضَّلة لا تبْقى بانْتظارنا كما نتوهّم أحياناً، وأن الأصدقاء القُدامى قد يتسرَّبون من أجِنْدة الصداقة دون أن ننْتبه لخروجهم ، لنكْتشف عند أول لِقاءٍ بعد الفراقِ أن تلك النُسَخ القَديمة عالِقة في قلوبنا نحن فقط ..


لذا قد نشْعر بالكثيرِ من الدَهْشةِ حين نلْتقيهم بعد سنواتٍ من الفراقِ، ونتفاجأ بذلك التَغْيير والتَجْديد الذي طَرَأ َعلى شخْصيّاتهم وكأننا أمام عَلاقات جَديدة نلتقي بأبْطالها للمَرّةِ الأولى!
فَبَيْنَما نسْترجع نحن التفاصيل القديمة بِحَماسٍ أَقْرَب للثَرْثَرةِ وبكُل دِفْء حنيننا إلى الأمس، يتذكرون هم الأحْداث ذاتها بصُعوبةٍ شبيهة ببُرودة مُؤْلِمة، لنكْتشف أنهم قد أحْرقوا الدَفاتِر العَتيقة بكُل صفحاتها وصورها ورُسوماتها في زَمَنِ الغِيابِ، وأن الأسْماء هي آخر ماتَبَقّى من نُسَخهم القديمة، وأننا مُرْغَمون على اسْتِبْدال الصور التي أحببناها، بصورٍ جَديدة لا ذِكْرَيات مُشْتركة بيننا وبينها ..


فإن كان في داخلك مَجْموعة من الصورِ القَديمة فلا تسعَ للالْتِقاء بأصحابها، واكْتِف بالنُسِخ القديمة منهم، فقد تصْدمك تَحْديثات الحياة لشخصيّاتهم وأفكارهم وأجسادهم ومُعْتَقَداتهم ومبادئهم!
فسواء كان ذلك التَحْديث للأفضل أو للأسْوَأ، فأنت ستشعر بالغربة معهم، فالزمن الذي أَنْهى أدْوارهم القَديمة في حياتك قد يُعيدهم إليك بأدْوار مُخْتَلفِةٍ تماماً، وقد لا تتوافق مع نُسَخهم السابقة في الجزء القديم من ذاكرتك.
لذا .. غادر مَراحِلك برُقْي ولا تلْتفت للأشياء التي بقيت في (أمْسك).