بنات فرنسا

أحمد العرفج


في مثل هذا الشهر من العام الماضي كنت في باريس، وكنت في مقهى أتصفح جريدة الصباح، وقعدت إلى جواري سيدة فرنسية ومعها ابنها وكان في نحو العاشرة، وما إن استقرت حتى أخرجت بضعة فرنكات وأرسلته كي يشتري وردة.


وعاد الصبي بعد دقائق ومعه وردة زاهية. وتأملتها السيدة كأنها تستمتع بزهوتها. ثم أخرجت مرآة صغيرة من حقيبتها ووضعت الوردة على شعرها.
وتأملتها أنا في إعجاب. فقد جللت الوردة سحنتها بنور من الحياة، وتألق وجهها جمالاً واكتست العينان فتنة والوجنتان حمرة.


وعدت إلى نفسي أتأمل وأفكر في هذا التأنق الذي يتسم به الباريسيون رجالاً ونساء. وهو تأنق يشمل كل شيء، فهو في الهندام كما هو على المائدة. بل كما هو في اللغة والإيماءة. وهو في المدينة، ميادينها وشوارعها كما هو في البيت، إنهم يتسامون إلى الجمال في كل ما دق وجل.


وليس في الدنيا مدينة أحفل بالتماثيل العظيمة من باريس، وهي تماثيل تخلد ذكرى العظماء أحياناً، ولكنها تمثل أحياناً الفكرة أو الإرادة أو الأمل أو العظمة. هي أفكار تعبر عنها الأحجار.
وليس في الدنيا بيت يجمع بين الفن والخدمة، بين التأنق والضرورة، كما يجمع هذا البيت الفرنسي الذي تعني ربته بالزهر يوضع على المائدة کما تعني بإناء الحساء المزخرف.
وأحياناً أتأمل جمال الفتاة الفرنسية وأحاول أن أحلل تفاصيله وأجزاءه. وكثيراً ما أنتهي إلى الاستنتاج بأنه ظرف وأناقة أكثر منه جمالاً أو ملاحة، فهو أحياناً هندام أنيق كأن مهندساً قد رسمه بالألوان، وهدف منه إلى اخراج فراشة زاهية تظن أنها لم تخلق إلا لترشف الرحيق.


هذا التأنق ينتقل إلى اللغة، فليس هناك استهتار في التعبير أو إهمال في إخراج الفكرة معينة مبينة، لا يشوب معانيها غموض أو شك. وكثيراً ما رأيت محدثي بتعنى ويتعمل كي يعبر بالكلمة والجملة عما يعني في وضوح. والمثل الفرنسي يقول: «ما ليس واضحاً ليس فرنسياً» ولم يؤلف هذا المثل عبثاً. وهذا الوضوح هو في النهاية تأنق.


وفي النهاية أقول:
يا قوم تمهلوا إن ما كتب أعلاه ليس لي، بل هو لأستاذي الدكتور سلامة موسى، وقد كتبه قبل أكثر من سبعين سنة، السؤال هنا، هل مازال أهل فرنسا عند حسن ظن شيخنا سلامة؟
هل مازال القوم في باريس يهادون الورود ويحتفظون بالعطور ويزرعون السرور في الطرقات والممرات؟
أسئلة أطرحها عليكم، وقد نجد الإجابة منكم، وقد تضيع بين هذا القول أو ذاك..!