تحت ضوء المصابيح

نجاة غفران

 


ليلة باردة.. ضوء المصابيح يبدو شاحباً جداً خلف غلالة الضباب الكثيفة التي تلف المكان. لا حركة حولها. لا مخلوق. السكون الجامد يحول مشهد الشارع الممتد كنفق لا بداية له ولا نهاية إلى لقطة سينمائية مأخوذة من فيلم خيال علمي. لا أثر فيه لمركبات فضائية، ولا لكائنات خرافية، ولا لأجرام سماوية تدور في أفلاك حلزونية غريبة.
وحدها تقف هناك، تحت عمود الكهرباء ذي النور الخافت، وسط الضباب.


البنطلون القطني والسترة الجلدية المبطنة التي رمتها بعجل على كتفيها لا يحميانها من سياط برد الخريف. نصف وجهها مدفون في ياقة السترة، والنصف الآخر مندس في القبعة القطنية التي تفسح بالكاد مجالاً ضيقاً لعينيها وأنفها المحمر. يداها محشورتان في جيبي السترة، وساقاها المرتجفتان تضمان حقيبة ظهرها الضخمة التي رمتها أرضاً عندما بلغت موقف الحافلة.
لم يكن لديها وقت لتجهيز حقيبة سفر حقيقية.


لا تحتاج إليها في كل الأحوال. أخذت معها ما يهمها. وثائقها وبعض قطع الملابس.
لن ينتبهوا لرحيلها. لن يكترث أحد. والداها مشغولان بترتيب ما قرره رب الأسرة. خطبة أيمن وتحويل أمور القيادة له.
كارثة صفق الجميع لها خلال اجتماع العائلة، أمس. لم تصدق. لم تشأ أن تصدق أن ما رأته يحاك منذ شهور أمامها صار واقعاً لا مناص منه. تشبثت بأمل إقناع والدها حتى آخر لحظة. لا يمكن أن يكون بهذه السذاجة. لا يمكن أن يصدق بأن ابنه العابث سيتحول بين عشية وضحاها إلى رجل أعمال جاد... فقط لأنه وضع الخاتم في أصبع ابنة أكبر شركاء العائلة، واستلم قيادة المجموعة.
النقاش مع والدها كان صعباً... وجارحاً. «يبدو أنك نسيتِ مكانك. أنتِ موظفة هناك، مثلك مثل غيرك. وعما قريب أزوجك وأرسلك إلى بيت بعلك. أخوك يحمل اسمي، وهو من سيخلفني ويقود المجموعة من بعدي...».
أيمن... الشاب الطائش الذي يستيقظ منتصف النهار، ويقضي الليل في السهر والعبث في الملاهي ومصاحبة الغانيات. كيف يسلمه مصير مجموعة تهز نصف اقتصاد البلد؟ وهي... ما فائدة دراساتها العليا وتكوينها المالي والإداري الصارم، وسنوات تدريبها الطويلة في الخارج؟ ما فائدة كدها بالليل والنهار واستماتتها في تسيير المجموعة أحسن تسيير، وتدبير شؤونها بشكل احترافي انحنى له الخصوم قبل الأصدقاء؟! ما فائدة كل ذلك... إن كان سينتهي بها المقام ربة بيت... إن كانت شركات المجموعة ستُرمى كاللعبة بين يدي أخيها الذي لا يفرّق بين عملتي الدولار واليورو؟
كل هذا... فقط لأنه رجل... وهي أنثى... لا حول لها ولا قوة.
متى كان جنس المرء معياراً على كفاءته؟


لم يكن ثمة فائدة من الجدال. كبير العائلة قرر. وكفى.
لم يعد لها مكان بينهم.
تنهدت ورمت نظرها بعيداً، حيث يلف الضباب نهاية الشارع. لا أثر لحافلة ولا لسيارة أجرة.
لم تشأ أن تستقل إحدى سيارات العائلة. غلطة سخيفة. لن تغادر المكان قريباً إن بقيت هكذا. أي وسيلة نقل ستخترق في هذا الوقت المتأخر الضباب الكثيف الذي يلف ضاحية المدينة؟ سكان المنطقة أثرياء، لا يحتاجون لحافلة نقل ولا لسيارات أجرة.
أمامها حلان؛ إما أن تواصل السير وتقطع الكيلومترات التي تفصلها عن المدينة مشياً... وهذا محال في هذا الجو... أو تعود أدراجها وتأخذ سيارتها... وتخاطر بلفت انتباه سكان الفيلا...
تنهدت من جديد وقد غلبها الامتعاض.
كل هذا لأنها أنثى. متى يدركون بأنها ليست ضعيفة كما يظنون؟ متى يفهمون أن بإمكانها أن ترفع اسم العائلة وتذهب بالمجموعة بعيداً... أبعد مما يحلمون؟!


انحنت تحمل حقيبتها دون أن تعرف ما الذي ستفعله بالضبط، وانتبهت فجأة إلى صوت محرك يقترب. سيارة أجرة ربما.
رفعت يدها لتلوّح وهي تحدق في المكان، ولمحت سيارة رباعية الدفع تقترب وتتوقف أخيراً.
رجلان نظرا إليها وتغامزا، ولم تشعر بالاطمئنان. طريقتهما في التطلع إليها كانت وقحة. أشاحت بوجهها، وقبل أن تفهم ما يحصل، اندفع الاثنان وطوقاها وسحباها إلى السيارة وهما يضحكان: «هيا يا حلوة... سنأخذك معنا... هيا...».
صرخت بأعلى ما تستطيع... ونادت والدها... وأخاها... وبكت.
ورماها الوحشان في السيارة. وانطلقا.