تلك التي شغلت كيانه

نجاة غفران

 


لم يحد بنظراته عنها.
أبعدت خصلاتي المبللة بعصبية عن وجهي، وتقدمت نحو الشاطئ وعيناي معلقتان به.
رافقني رغماً عنه في هذه الإجازة القصيرة. لديه مشاغل كالعادة... والبحر لا يروق له... وتمضية الوقت في التسكع ومزاحمة السياح في المطاعم والفنادق والطرقات لا يغريه... ولكنه لا يرغب في سماع أسطوانتي المشروخة، ولا في الرد على ملاحظات أهله. لم نخرج معاً منذ فترة، ولم نحظ بعطلة، ولا بفرصة للابتعاد عن ضغوط عمله والتفرغ لنفسينا وربما الاستمتاع بذلك.
رافقني مرغماً، وها هو لليوم الرابع على التوالي يدير ظهره لي وينعزل في عالمه.
المياه دافئة، وساعة السباحة التي حاولت فيها التخلص من حنقي عليه وعلى نفسي وعلى الحياة الزوجية الفارغة التي نتشاركها لم تحسن مزاجي كثيراً. لماذا تزوجني... ما دام لا يرى في سوى قطعة ديكور تؤثث بعضاً من زوايا حياته الأسرية والاجتماعية؟ لم يكن هذا ما أنتظره من الزوج «اللقطة» الذي فاجأني أهلي به. رجل الأعمال الوسيم، الذي حكى لي الكثير عن نضجه وجديته، وأعماله الخيرية وسفرياته، وأمور أخرى كثيرة جعلتني أهيم به قبل أن أتعرف عليه.
من صغري وهم يقولون لي بأن العرسان سيتزاحمون على بابي. مسحة الجمال الأوربي التي ورثتها عن جدتي لأمي فتحت لي الكثير من الأبواب، وتسبب لي أيضاً في الكثير من المتاعب. غيرة في الوسط العائلي، وتحرش مستمر في مجال العمل... وحينما تقدم إلي، كان شرطه الوحيد أن أقعد في البيت وأتفرغ له.
لم أمانع. فمن كثرة ما لقيت من تعقيدات في حياتي المهنية لم يعد الأمر يعني لي سوى صداع الرأس وانهيار الأعصاب.
المشكلة أنني وجدت نفسي أتفرغ لشبح.
أنا لا أكاد أراه. بل لا أكاد أتشارك معه سوى بضع سويعات في الليل، ومناسبات اجتماعية كثيرة وثقيلة، أتحمل بمشقة متطلباتها الشكلية الفارغة. زينة مبالغ فيها ومجاملات لا تنتهي، ونفاق اجتماعي خالص، وكذب ونميمة وضحك خلف الظهور، دوامة كئيبة أغرق فيها ولا أشعر برغد العيشة الذي تحسدني الكثيرات عليه، ولا بدفء الحياة الزوجية، ولا بترف المجتمع المخملي الذي فتح لي أبوابه.
يتملكني إحباط مستمر وأنا أراه يتطلع إليها كلما اختلينا ببعضنا، ولا يكاد يشعر بوجودي. تماماً كما الآن...
التفت إلى البحر الممتد حتى الأفق خلفي. مويجات صغيرة تتهدهد من بعيد، وتتكسر عند قدمي اللتين تعبثان بالرمال المبللة الدافئة. تنهدت وعدت أنظر اليه، هناك، تحت الشمسية الزرقاء الأنيقة، الشبيهة بخيمة نصبت لنا في الشاطئ التابع للفندق الفخم الذي نقيم فيه.
نادلة شابة تضع المرطبات التي طلبها على المنضدة الصغيرة، قرب كرسي الشاطيء الذي يتمدد عليه، وتسترق النظر إليه وهي تبتسم بإغراء.
أقترب وقلبي ينقبض وأنا أتابع محاولاتها لإثارة انتباهه.
مشهد تعودت عليه، ولم أفلح في السيطرة على عواطفي وأنا أراه يتكرر أمامي. 
نساء يتوددن إليه، ويستخدمن كل حيل الغنج والدلال للفت انتباهه، غير عابئات بي ولا بمن يحيط به.
لا أزال أقترب والكدر يغالبني. ما هذه العيشة؟ ما الذي يجبرني على تحمل كل هذا؟
لا زال يتطلع إليها. أنامله الطويلة تلمسها بخفة وجبينه يتغضن وهو يركز على ما تمده به من أخبار.
النادلة الشابة تنحني لتقول شيئاً، وأنا أقترب، أقترب وأرتمي على الكرسي الذي يجاوره، وأمد يدي إلى المرطبات.
لم يلتفت إلي. 
صرفت النادلة بجفاء، ورشفت الليمونادة الباردة، وأخبرته بأن المياه دافئة، والبحر هاديء، والسباحة رائعة في هذا الجو.
لم يرد. 
أضفت بأنني تمنيت أن يرافقني. 
للسباحة معه طعم آخر... 
بقي يتطلع إليها ودماغه في عالم ثان.
كل جوارحه معها. كله على بعضه تائه فيها، مخدر بها، عائش فيها.
أشحت بوجهي والغيرة تأكلني.
لا شغل له غيرها.
لوحته الإلكترونية اللعينة التي لا تفارقه صباح مساء.