حياتنا في صور

نجاة غفران



من الصعب جدًا سبر أغوار النفس البشرية. نحن نرى الناس، نخالطهم، ونعتقد أننا نعرف الكثير عنهم، وفي الحقيقة، يظل البشر ألغازًا لا يفهمها أحد.
لا أزعم أنني أعرف الكثير عن جارتي.
هي سيدة ثلاثينية تشغل الشقة المقابلة لبيتنا. نسكن جميعًا في حي راقٍ وسط المدينة. حصلنا على شقتنا منذ شهور فقط، بعد انتظار طال سنوات. زوجي الذي كان متمسكًا بالعيش قرب والديه لم يستطع مقاومة الفرصة عندما انتهى إلى علمنا فراغ إحدى شقق هذا المركب الفخم الذي يقطن فيه موظفو حي المال والأعمال في قلب المدينة. دفعنا طلبًا للحصول على الشقة، وجمعنا مدخراتنا واقترضنا من أهلنا... وطالت المعاملات القانونية قبل أن نحصل على مفاتيحها.
تعرفت على جارتي سريعًا. كلما فتحت شرفة البلكونة أجدها تحمل مرشًا أنيقًا وتسقي صفًا من أحواض الزهور التي تزين بلكونتها. سيدة رشيقة ترتدي قطعًا مختارة من الثياب وتبدو دائمًا وكأنها خرجت للتو من محل تزيين. شعر مصفوف بعناية وماكياج خلاب وحلي منتقاة بذوق.
التقينا غير ما مرة في الحديقة التي تتوسط مباني المركب، وتقابلنا أيضًا في مرآب السيارات. ومضى وقت طويل قبل أن تتحول ابتساماتنا المتبادلة من بعيد إلى مصافحة حارة ثم إلى عناق صديقتين تتلهفان للقاء بعضهما وتتبادلان الأخبار. رانيا، وهذا اسمها، موظفة كبيرة في فرع بنك ألماني يتمتع بسمعة دولية. يعمل تحت إدارتها العشرات، وهي دائمة التنقل بين ألمانيا والمغرب. لم تصدق بأنني لا أعمل وسألتني مرارًا كيف أقبل أن أقعد في البيت طيلة النهار أطبخ وأجلي الأواني وأنظف الغرف. زمن السخرة النسائية مضى كما تقول، والمرأة الآن تكسب المال وتتنقل كما تريد ولا يتحكم بها أحد. أفكارها بخصوص الزواج أذهلتني. لم تكن تناسب موقعها ولا ثقافتها. وكأنها، مثلها مثل أولئك الذين يرون بأن المرأة خلقت لتخدم الرجل وتستتر في البيت، ترفض أن توسع آفاق نظرها وتتفهم اختلاف حاجات النساء وحقهن في اختيار طريقة حياتهن دون ضغوط خارجية.
رانيا أخبرتني بأنها لن تتزوج أبدًا، ولن تسمح لأحد بأن يفسد عليها وحدتها وحريتها. وزوجي الذي لم أكن أخفي عنه مضامين بعض أحاديثنا صار يتذمر من علاقتي بها، ويحذرني من تبني أفكارها. بل إن الأمر تطور لدرجة أنه أصبح كلما تشاجرنا لسبب مهما كان تافهًا يتهمني بأنني أسمع كلام المرأة - الرجل تلك كما يقول عنها، وأسعى لخراب عيشتي لأصبح مثلها...
لم يكن ذلك صحيحًا. رانيا كسيدة مستقلة لديها مواقفها الخاصة من الحياة المشتركة لا تعنيني في شيء. صداقتنا أهم عندي من أفكارها. واللحظات التي نقضيها معًا في الثرثرة أو التسوق أو تناول الشاي أو حتى الرياضة، وهذا أمر يحسب لها، فهي من شجعني على الخروج باكرًا للركض معها على الشاطئ أمور تضيف رونقًا خاصًا لحياتي وتشعرني بأن لي ملاذًا خارج مؤسسة الزواج.
تركت لي مفاتيح شقتها لأول مرة قبل سفرها الأخير إلى ألمانيا، وطلبت مني أن أسقي نباتاتها. لم يسبق لها أن فعلت ذلك. سرني الأمر وشعرت بأن ثقتها بي تزداد وحاجتها إلي كذلك.
قالت إنها ستغيب أسبوعًا أو أكثر بقليل.
بدأت أتردد على شقتها وأعتني بصف الزهور الرائعة التي تزين بيتها. لديها ولع شديد بالنباتات، فهي تؤثث كل أركان الشقة. مرت الأيام هادئة حالمة إلى أن اقترب موعد عودتها وقررت أن أنظف البيت وأعده لاستقبالها.
لم يستغرق الأمر الكثير من الوقت، لكن بينما كنت أمرر منفضة الغبار على رفوف مكتبتها توقفت يدي عند مجلد أسود مخملي محشور في الزاوية. قلبته بفضول وإذا به ألبوم صور. وضعته جانبًا وأنهيت تنظيفي ثم جلست في البلكونة أقلب بفضول صور حياة رانيا التي لم أكن أتخيلها طفلة ولا حتى صبية. هي في نظري امرأة قوية بالغة تعودت طيلة عمرها على إلقاء الأوامر وتوجيه الناس.
صورها وهي صغيرة مثيرة حقًا. طفلة شديدة الثقة بنفسها تحدق بقوة وتحدي في عدسة التصوير.
اتسعت ابتسامتي وأنا أقلب الصفحات. سأمازحها بالأمر حين تعود...
فتحت فمي بذهول وأنا أصل إلى الصفحات الأخيرة. ماذا أرى... ما هذا...
عشرات الصور المأخوذة لي أنا وزوجي ونحن نفطر في البلكونة، ونحن نقف عند النافذة، ونحن نمر أسفل البناية، ونحن نركب السيارة، ونحن نتحدث هنا وهناك، أمام نوافذ شقتنا، في الحديقة، في الشارع... أنا وإياه في مواقف عديدة... أنا وإياه دائمًا... والصور مأخوذة من بعيد، أو مخطوفة...
حياتنا معًا مبعثرة أمامها...
ما معنى كل هذا...؟ ألم تقل إنها تكره الزواج، ولا تتحمل الارتباط، ولا تريد التفكير في رجل؟
شعرت بأنني لا أعرف شيئًا عن الإنسانة التي فتحت لها قلبي وحكيت لها الكثير من تفاصيل حياتي...
لماذا تتجسس علي أنا وزوجي؟ لماذا تطاردنا؟ ماذا تريد منا؟
تملكني الخوف، وقمت أهرب لبيتي ودوامة من الأسئلة المحرجة تلف دماغي.
نجاة غفران