خطوط العشق

نجاة غفران

 

لا تعرف كيف اجتمعا، لا تفهم ما الذي يفعلانه معاً، كلاهما جاء من عالم آخر، هو، بسترته الجلدية القديمة، وبنطلونه العسكري ذي الجيوب الجانبية المزررة على طول الساقين، ونظارته الداكنة العريضة التي تلتهم نصف وجهه، وهي، بفساتينها الخفيفة ذات الألوان المشرقة والرسوم النباتية الرقيقة، وأحذيتها الأنثوية العالية، وتشكيلة حقائب يدها التي تمرر سلاسلها الذهبية الرفيعة على كتفها، وتتركها تتأرجح بدلال على جانب خصرها.


لا تعرف ما الذي يفعلانه معاً.
«جربي أن تتوقفي عن ذلك يوماً واحداً، أعطي نفسك هدنة..».


منذ أيام وهو يحاول أن يقنعها بأن تترك هاتفها جانباً وتستمتع بالوقت، دون أن تأخذ صوراً لكل ما يثير انتباهها وتنشرها على صفحتها في الإنستغرام.
مضحك أن تأتي النصيحة منه، هو المصور الفوتوغرافي الذي لا يفترق عن آلة تصويره الريفلكس القديمة.


قديمة بتقديرها.. هي.
التقيا في البارك، جلسا على نفس المقعد، وانشغل كل منهما بتناول ساندويتشه في ركنه.


كيف التفتا إلى بعض؟ من بدأ بالكلام؟ لا تدري، لا تتذكر، ربما تحدثا معاً في نفس اللحظة، بعدها.. بعدها أكملا النزهة معاً، وتبادلا أرقام الهاتف وأصبحا.. ماذا بالتحديد؟ لا تدري.. أصدقاء.. أصحاب.. أكثر من أصحاب بقليل.. أو بكثير..
لا يهم، ارتاحا إلى بعض ولو أنهما لم يتوصلا حتى الآن إلى فهم بعض.


«لا أدري كيف تستطيعين المشي على هذه المسامير.. ألا تؤلمك قدماك؟» سألها بسخرية، وضحكت وهي تنظر لنظارته: «لا أدري كيف تستطيع ممارسة مهنتك وعيناك متخفيتان خلف هذه النظارات الفظيعة.. ألا تتوق للنظر مباشرة إلى ما تلتقطه عدستك؟»
هز كتفيه.. وتوقفا أمام مجسم حجري رمادي ضخم وسط ميدان الحي الدبلوماسي.


«ما هذا الشيء؟ منذ متى وضعوه هنا؟» هتفت وهي ترفع هاتفها لتصور الدائرة الحجرية التي يتوسطها قرص معلق بسلسلة غليظة صدئة، وداخل القرص أشخاص يحملون معاول وفؤوس وأدوات صيانة.
«ها... ماذا قلنا؟» صاح بها: «انسي الإنستغرام يوماً واحداً.. ساعة واحدة.. اعتبريه تحدياً..».


ضحكت وحولت الصورة إلى حسابها على الإنستغرام، ثم نظرت إلى ساعتها، مازالت أمامها ساعتان على الأقل قبل المحاضرة التالية.
تدرس العلاقات العامة في الجامعة، شرحت له الأمر، هندامها، ماكياجها، حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.. كل ذلك مرتبط بمجال تخصصها، لكنه لا يريد أن يفهم.


«هذا النصب مهزلة.. ووسط الحي الدبلوماسي؟ سنصير أضحوكة عند الأجانب..».
«لا أظن، هذا النصب حصل على المرتبة الخامسة في المسابقة الدولية ليوم العمال، صاحبه أطلق عليه اسم (دائرة العرق)، إنه شرف للبلد..».


تكرهه عندما يفحمها بمعلوماته الغزيرة، كأنه دودة مكتبات، تفقدت عدد متابعاتها على الإنستغرام، وتنهد وهو يقترح: «لنتناول شيئاً، ريقي نشف من محاولة إقناعك، انسي الهاتف اللعين قليلا..».
تبعته إلى محل مثلجات قريب وهي تبتسم، قليل من الامتعاض لن يضره.


أخذت صورة لقالب الآيس كريم الضخم المزين بحبات الفراولة وقطع الشوكولاتة المحشوة بالمكسرات اللذيذة، ونشرته على حسابها، وعلق وقد كاد ينهي مثلجاته: «لا فائدة، تمكنت منك العدوى، حبست نفسك في العالم الافتراضي، وما عدت تستمتعين بشيء في الواقع..».
سألته عن معرضه الذي قال إنه يحضر له منذ شهور، تحدثا قليلاً، وأنذرها للمرة الألف بأنه لن يسمح لها، ولا لغيرها، بأن يسجنوا صوره في حساباتهم على الإنستغرام.


ضحكت، ورافقها حتى الجامعة.
شاب غريب، قالت لنفسها وهي تنظر إليه يبتعد، وعيون البنات تتابعه.
تمسكه بالأشياء القديمة، حديثه الموزون، ثقافته العالية، ودفء حضوره، وحتى نظارته العريضة.. لا تحجب وسامته وتفرد طلته.


دق قلبها وهي تفكر من جديد في علاقتهما، ماذا يكونان؟ رفيقان، صديقان، حبيبان؟
هزت كتفيها وتجاهلت أنفاسها الحارقة وهي تتفحص حسابها على الإنستغرام، سبع عشرة نقرة إعجاب للآيس كريم، وثلاث نقرات فقط للمجسم الكئيب ذي الرتبة العالمية الخامسة.


العالم لا يسير في خط مصورها الفوتوغرافي الغامض.
دق قلبها وهي تعاود التفكير فيه.