صاحب العينين العسليتين

نجاة غفران

 

أحياناً، تختلط الأمور عليّ، ولا أدري أين ينتهي الواقع وأين يبدأ الخيال، أراني أتأرجح فوق حبل رفيع بينهما، وأشعر به خلفي، خفيفاً، يقظاً، عابثاً، يلمس ساقيّ بلطف، وأبطئ خطاي وأتركه يسبقني ويجري نحو الشاطئ، ونسيم الصباح البارد يعبث بشعره وأنا ألحقه ونقترب منها، وأضحك، أضحك بجنون وأنا أراها تتكئ على كوعيها وتضرب برجليها المنشفة الزرقاء التي تتمدد عليها وتصرخ بغضب: «ما الذي جاء به؟ أبعديه... لا رغبة لي برفقتك إن كان معك..».


أختي الحبيبة.. أختي التوأم.. لكم تعجبت من غيرتها عليّ..
إحدى خالاتي كانت لا تنفك تحذر أمي: «انتبهي إليهما.. العلاقة الانصهارية بين التوائم ليست أمراً طيباً دائماً، يمكن أن تتسبب في مآسٍ.. وابنتاك تعيشان لبعضهما وتتنفسان هواء ملغوماً في فقاعة حبستا نفسيهما فيها.. حذارِ.. حذار..».
لم أفهم حينها ما كانت تقصده، لست متأكدة من أنني فهمت الآن، لكن كثيراً من الأمور تغيرت من حولي،
فقدتهما معاً.


يوم قدمه والدي لنا، رفضت أن تمد يدها إليه، «لسنا بحاجة لرفقة.. بابا، ماذا دهاك؟ لسنا بحاجة إليه..»، أعلنت بحنق واستدارت مبتعدة، ولأول مرة في حياتي.. لم أتبعها.
نظرت إليه.
تطلع إليّ.
وحدث شيء ما.


لفّتني سعادة غامرة وأنا أقترب منه، عيناه العسليتان تفيضان وداً، وشعره الناعم المتموج في الهواء يسحرني..
وقعت في حبه من أول نظرة، وكرهته أختي.


سمعت أمي تقول لوالدنا: «لم تكن فكرة سديدة، أصبحتا تتشاحنان بسببه، لا أحب أن أراهما هكذا..».
ورد الوالد: «أنسيت نصائح أختك؟ ربما هذه فرصتهما ليبتعدا قليلاً عن بعض.. ولتكوّن كل منهما شخصيتها المستقلة..».
لا أفهم لماذا كرهته أختي، كله على بعضه عسل، لا أطيق الابتعاد عنه لحظة.


لا أحتاج لتناول جرعات دوائي الإجبارية لأضل طريقي بين خيالات قريبة وواقع بعيد ومرير، صيفنا الماضي على شاطئ البحر لم يشبه سابقيه، لم نمرح معاً كما تعودنا، ولم نتسكع ولم نمض الساعات في ارتجال عروض الماء، ولم نمطر صفحتنا على الإنستغرام بالصور الطريفة، ولم نتحدث كثيراً، رفقته التي لم أعد أستطيع الاستغناء عنها، أحدثت شرخاً عميقاً في علاقتنا، وحين حاولت أن أصلح الأمر، حين قبِلت أختي بعد طول إلحاح مني أن تصحبني معه إلى المدينة القريبة لنتبضع، حدثت الكارثة، وفقدت كل شيء.
لم أجد في أدوية المشفى الذي حجزني والداي فيه، دواءً يمحو الذاكرة أو على الأقل يخدر جوانب منها.


تلك الصبيحة اللعينة.
جلست قرب أختي في مقدمة السيارة، وتركته يأخذ مكانه في الخلف.
مددت يدي أتلمس شعره الجميل بحب وأنا أدندن له بأغنية لطيفة، ونهرتني أختي بشدة، وضحكت، ومددت يدي من جديد، ودفعتها بعنف وهي تشخط فيّ.
وكانت الكارثة.


انفعل واندفع نحوها يدافع عني، وفقدت أختي السيطرة على السيارة التي انقلبت عدة مرات قبل أن تجتاز الحاجز المطل على صخور الشاطئ، وتسقط محدثة ضجة رهيبة.
وكان الفراغ.
فتحت عيني في المستشفى، جسدي كله مسجون في الجبس، وأختي..


أختي رحلت.
وكلبي الوفي ذو العينين العسليتين، رحل أيضاً.
وبقيت وحدي، أموت وأحيا ألف مرة في اليوم، أراهما قربي، يظهران ويختفيان، يقتربان ويبتعدان، ولا أدري إن كنت أحلم أو أهذي.