كل الأشياء قد تركتها.. كما تركتني لا أودّ أن أكبر فالطفولة تعزيني

سلمى الجابري


عندما يحين وقتك احتجّ، كم من فرصةٍ تجاوزتنا فقط؛ لأننا نكترث لشعورِ الآخرين أكثر من شعورنا..
لا أعلم ما هو وجعي بالضبط، كل شيء بداخلي يتداعى، لا أشعر بشيءٍ مطلقًا، لا يؤلمني شيء، لا يسعدني شيء، إني أغرق هكذا في الفراغ، وحدها الظنون تؤلم، وحدها الأحلام تموت، أنا أحببتك كي أجابه العالم في عينيك، لا من أجل أن أفقدني في وسطِ الزحام.
سئمت من تفريغ هذا العبء على هيئةِ بكاء، لا يعقل للآن لم يجد أي أحد طريقة أخرى يمكننا التنفيس فيها غير الدموع. كم هو مرهق أن تُستنزف بالكامل، بكل دواخلك فقط لأنك أحببت، الأكثر إيلامًا أن كل شيء قد يتوقف فيك طويلًا دون أن تمسه يد، هذا لأنك انتظرت أكثر مما يجب، انتظرت أكثر مما تحتمل، كي لا يقتلك الندم فيما بعد.
أخبرني عن الجرح الأول، عن الفرصة السانحة للانهيار، أخبرني عمّن يكترث بقصصِ الوداع، لأخبرك بتفاهةِ كل هذا أمام الكبرياء، لم يؤلمني سوى هذا الحب، فهو يفقدك كل خياراتك الممكنة، يجردك من حالة اللامبالاة ليحافظ على اتزانك فيه.
- هل من الصعب أن نكون صغارًا في الحب؟ هل يجب علينا أن نكبر في كل مرةً نقطع فيها الكثير من الأميال العاطفية؟ لا أودّ أن أكبر، فالطفولة تعزيني، تصالحني مع كل من توقعت بأني قد محوتهم يومًا. أن تكون طفلًا؛ هذا يعني بأن كل من على البسيطة لن يحتمل براءتك، فلا داعي بأن يقاوم رغباتك، لذا لا أريد ان أفقد براءتي بسببِ جرحٍ قد يضعه الحب أمامي في لحظةٍ لا أتوقعها.

هذا العالم لا يسعني في هذه اللحظة، دعني أركض، فالنهار سيبدأ، والشمس ستقبل رؤوس الجبال، ستعانق الغمام، وستميل لتنتصف شحوب السماء، ستصافح الوجوه المتثائبة، وستمنح الدفء للصغار.
فلا وقت عندي كي أعبر التيه بتيهِ أكبر، لذا دعني أسافر مع النوارس والأغنيات، فأنا ما زالت تجذبني التفاصيل المشّعة.
دعني أتجاوز عاديتي، أنتقل بين الأزمنة، أتنبأ بالعالم الرابع، الخامس، وحتى الأخير دون أن أسأم، دعني أعيشك بمفردي، مع قلقي وأقلامي، فسمرتك تؤذيني، تثير حساسيتي تجاه المسافات المفتعلة بيننا، تعيذني من شر الغياب، ثم تعيدني إلى جلدك، إلى نحولةِ أصابعك وسمرتك.
ها أنا أهرب نحو الظلال الكثيرة، الظلال المائلة منها والمستقيمة، هل تعلم بأن ظلك يتبعني؟ يختار لي الفساتين، يمشي ورائي بحذر، يبعد عني الظلال الأخرى، ويقرأ جريدة، بينما أتأمل حواف الأكواب والمقهى، ظلك لا صوت له، كحبك الساكن الصاخب بداخلي.
لا تقلق فأنا لم أعد بحاجة لأن أنظر نحو الأشياء بالمقلوب؛ كي أتصنع البهجة، فابتسامتي قد سقطت أمام بائع الحلوى، عندما نهبوا الطفولة منّا يومًا.
لم أكن أنتظر أن تتساقط المشاهد فور انسحابي، ألم يكن مبكرًا أن ينسدل الستار؟ وأن يصفق الجميع برتمٍ مؤذٍ؛ مُعلنًا عن حضور النهاية؟! فأنا لم ألفظ أنفاسي بعد، ما زال بلل الكلمات الأخيرة في فمي، لم يسعني أن أهدأ، أو حتى أن أمسح الدهشة من وجهِ ملامحي المخذولة.
كل الأشياء قد تركتها، كما تركتني، لم نعد كالسابق، نشتكي، نبكي، نثرثر، نشتم، نغني، نصمت، ننام، أو حتى نكتب، لم نقل وداعًا؛ كي لا نضفي فوق المشهد مشهدًا آخر، قررنا الانسحاب فجأة، وبأن تكون العودة بذات الفجأة، لكن المفاجأة أني عدتُ مبكرًا، قبل عودة الحياة لتفاصيلي الصغيرة، عدتُ ولم يعد أي شيءٍ كما كان، أم أنه كان يجب عليّ الرحيل؛ كي أرى بأن لا شيء يربطني بهذه الغرفة، بهذا المكتب، بهذا السرير، بهذه المرآة، بهذه الدفاتر والكتب، بهذه الأشرطة، والأقلام، والمجلات، بهذا الخواء الكبير سوى العدم.
إنها تمطر، العالم في الخارج ينتحب، السماء تصرخ بالبرق والرعد، ولا أحد يمدَ لقلبي مظلة.
اسمعهم يضحكون، تتلوى المفردات بين ألسنتهم، ثم يغمزون، أراهم يزدادون قبحًا والفضول يملؤهم، كل هذه الغرابة لأني هنا؛ لأني عدت كما لم يتوقع أحد، كما لم أتوقع أنا، كما لم تتوقع أشيائي الصغيرة البائسة، هذا الكون يضحك، يزفر حقده، ليشهق النميمة من جديد. 
لم أكن أنتظر أن تسقط بداخلي كل هذه الهزائم مرةً واحدة، حينما قررت ممارسة لعبة الاختباء.