الدرعية.. محطة تاريخية لانطلاق قوافل الحج منذ قرابة 600 عام

أمِنت قوافل الحج في الدرعية واستبشرت في مكة
أمِنت قوافل الحج في الدرعية واستبشرت في مكة

يمتد أداء فريضة الحج على مدى حقب تاريخية متعدّدة منذ وضع سيدنا إبراهيم - عليه السلام - أسُس بيت الله الحرام في مكة المكرمة، فكان الخطاب الإلهي له بأن ينادي في الناس بحج البيت والطواف حوله والسعي بين الصفا والمروة.

استمراره شعيرة إسلامية

ومع ظهور الإسلام استمرّ أداء الحج - الركن الخامس من أركان الإسلام - شعيرةً إسلاميةً رافقها شدّ المسلمين رحالهم من شتى أصقاع المعمورة باتجاه الأراضي المقدسة في الجزيرة العربية، وأصبحت اليمامة إحدى أهم طرق عبور قوافل الحجيج القادمة من شرق العالم الإسلامي.

مشاق وأخطار كثيرة

وطوال الأزمنة المتعاقبة لطالما انطوت رحلة الحج على مشاق وأخطار كثيرة كانت تحيط بحركة القوافل التي تحمل حجاج بيت الله، حيث إنّ من يتأمّل آليات الانتقال إلى الديار المقدسة في مكة المكرمة ذهاباً وإياباً يرصد تماساً مباشراً مع طبيعة المراحل والظروف التي تكتنفها، بما يعكس الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الجزيرة العربية.

تحول الدرعية لإحدى محطقات توقف الحجاج

ولتميز موقعها الإستراتيجي تحوّلت الدرعية، بعد تأسيسها عام 850هـ/ 1446م إلى إحدى أهم محطات توقف قوافل الحجيج، نظراً لوفرة الغذاء والماء، واستتباب الأمن والأمان والاستقرار في ظل وجود سلطة سياسية قوية أسهمت بفاعلية كبيرة في تأمين طرق القوافل من قطاع الطرق، ووفقاً لوثيقة قديمة يظهر الأثر الجليّ لأمير الدرعية إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي في تأمين وصول قوافل الحجيج إلى مكة المكرمة بكل يُسر وطمأنينة.

طريق "أبا القد"

وكانت قوافل الحج في ذلك الوقت تسلُك عدة طرق مروراً بالدرعية محطة لانطلاقها، أهمها: طريق "أبا القد" الذي يُعرف في وقتنا الحالي بطريق "القدية"، ويعدّ أقدم طرق الحج، وكان حجاج الدرعية يجتمعون في مجلس الدرعية في حي سمحان ثم يتجهون من عقبة "النصرية" إلى "عرقة"، تليها نزلة "القدية" ذات الوعورة الشديدة، وكانت الجمال خلال رحلة الحج تُربط من الخلف خشية سقوطها ومساعدةً لها على النزول، وتُربط من رقابها صعوداً، وتواصل القوافل طريقها باتجاه "قصور المقبل" و"المزاحمية".

طريق "سبع الملاف"

أما الطريق الثاني فأطلق عليه طريق "سبع الملاف"، طور في عهد الملك عبدالعزيز بن الرحمن الفيصل آل سعود - طيّب الله ثراه -، حيث يمر انطلاقاً من الدرعية بوادي حنيفة باتجاه "الجبيلة" شمالاً، ثم "العُيينة" مروراً بـ"شعيب الحيسية"، ثم يبدأ طريق "السبع ملاف" الذي سمي بهذا الاسم لوعورته ووجود سبعة منحنيات على امتداده، وصولاً إلى "مرات" إحدى المحطات الرئيسة لتوافد الحجيج القادمين من شرق السعودية.

طريق "ديراب"

والطريق الثالث هو طريق "ديراب"، حيث يتجه الحجاج من "الدرعية" إلى طلعة "النصرة" مروراً بـ"عرقة"، ثم "شعيب نمار"، ثم "ديراب"، فطريق "الغزيز"، ثم يمرّ بمحاذاة "ضرما" وصولاً إلى "القويعية"، وقد يسلك الحجاج طريقًا آخر باتجاه "الدوادمي".

تأسيس الدولة السعودية

وحينما قدم مانع المريدي من شرقي الجزيرة العربية واستقرّ في "الدرعية" بعد اتفاقه مع أبناء عمومته وزعيمهم ابن درع على إعادة أمجاد آبائهم الذين استقروا في المنطقة، كان لقراره هذا أثرُه الكبير في التمهيد لوضع اللبنة الأولى لقيام أعظم دولة في تاريخ الجزيرة العربية بعد حقبة الخلافة الراشدة، حيث أسس الإمام محمد بن سعود الدولة السعودية عام 1139هـ/ 1727م، وعمل بعد توليه الحكم لترتيب الأوضاع التي لم تكن مستقرّة في نجد نتيجة انتشار الأمراض والأوبئة والخلافات السائدة بين البلدات في ذلك الوقت، وحافظ على طرق قوافل الحجاج والتجارة، وأضحت الدرعية في عهده ذات سلطة مستقلة تماماً عن أي قوى إقليمية، واتسعت رقعة الدولة السعودية في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود بضمه عدة نواح، وهو الأمر الذي تجلى في ازدياد إيرادات الدولة وتسهيل تأمين طرق الحج وخدمة الحجيج.

إنهاء نفوذ القوات العثمانية الغازية

وبعد تولي الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود - ثالث أئمة الدولة السعودية - الحكم عام 1218هـ/1803م، أتمّ توحيد الحجاز فدخلت الجيوش السعودية مكة المكرمة وأصبح خادماً للحرمين الشريفين بعد إنهاء نفوذ القوات العثمانية الغازية، وداوم الإمام سعود على أداء الحج سنوياً طوال مدة حكمه، ولُقب بـ "سعود الكبير" إشارةً إلى ما وصلت إليه الدولة في عهده من عظمة واتساع، حيث امتدت من أطراف الفرات والشام شمالاً حتى صنعاء ومسقط جنوباً، ومن ساحل الخليج العربي شرقاً حتى البحر الأحمر غرباً.

محور ارتكاز رئيس لتأمين رحلات الحج

وهكذا كانت الدرعية منذ تأسيسها محور ارتكاز رئيس لتأمين رحلات الحج وخدمة الحجاج وتقديم الدعم والرعاية لهم، وامتد هذا الشرف العظيم حتى توحيد المملكة العربية السعودية على يد المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيّب الله ثراه -، حينما أولى الحرمين الشريفين وقاصديهما من الحجاج والمعتمرين جميل الرعاية والاهتمام، ومن أوجه ذلك الكلمة التي ألقاها أمام حجاج بيت الله الحرام عام 1357هـ/ 1938م وأكّد فيها التمسك بكتاب الله وهدي نبيّه ﷺ. وسار على نهجه في خدمة ضيوف الرحمن أبناؤه البررة من بعده، وصولاً إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - وولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله -؛ فكانت مشاريع التوسعة وتطوير البنى التحتية ومرافق الخدمات في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة والمدينة المنورة شاهداً حيّاً على ما أنعم به الله على هذه البلاد، حيث سخّر لها قيادة عظيمة أخذت على عاتقها خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما من جميع أرجاء العالم.


يمكنكم متابعة آخر الأخبار عبر تويتر "سيدتي".