"مليونير.. مليونير"

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي

"لم تمضِ بضع دقائق أخرى، من دون أن يتمم على ما بقي بحوزته، فيضمها إلى صدره تارة، أو يأخذ في بعثرتها عالياً، لتتساقط على رأسه، في مشهد تتراقص حوله تلك الوريقات الملونة.. تصبح الواحدة منها حفنة من رماد، إذا لامست عود ثقاب؛ يُشعل بالكاد غليوناً، أو يدفئ كوب ماء."..

مشهد مصغر في حياة الكثيرين، يتكرر مرات لا تعدّ، يصبح الواحد منهم كمن؛ كشّر عن أنيابه في وجه كل من طلب فلساً واحداً، أو استعطفه بالإمداد في محنته، أو حتى من يحسبون في كنفه ورعايته، يقضي الواحد منهم على أصوات معدته المتعاركة، المتلهفة لكسرة خبز؛ برشفة ماء!

سنوات عجاف، وليالٍ كئيبة، وحياة أشبه بالموت، ملأها الشح والاكتناز، وأخذ العدة ما استطاع؛ في تجميع كل ما تقع عليه عيناه، أو مر مرور الكرام على خاطره.. فلا هو فرّج عن نفسه ضيق الحال، ولا ترك لغيره بأخذ الصعداء وسداد ما يحتاجه الضعفاء.. وحيثما باءت بالفشل جميع ما عملته أيدي الأطباء، فلم يلفح أحدهم أن يزيل عنه بعضه، أو يخفف وطأة أعراضه.. ولربما لم يطاوعه قلبه، بالذهاب لأحدهم، وزج بقيمة "الكشف" في سرواله المرقع من عقدين أو يزيد..

تسنت الفرصة لي يوماً، ومنحني الوقت بالبحث عن مرض "الوسواس القهري".. أنواعه وأعراضه، مراحله المختلفة، ومن هم أكثر عرضة، نسبة الشفاء منه، والجدوى من محاولة العلاج نفسها... تفاجأت حينها أنه من بينهم وعلى رأسهم "الاكتناز القهري"، ومدى تأثر المصاب بجمع كل ما يخطر، أو لا يمر بفكرك أصلاً، سواء كان عتيقاً، أو بالياً، ذا قيمة فعلية من احتكاره أو لا، وقد لا يشكل فارقاً في حياته من الأساس، ولا يدر عليه إلا اندلاع ألسنة العبث والفوضى من تراكم المخلفات.. فترى العملات المعدنية المتناثرة، طوابع البريد المتآكلة، الكثير من الخردوات تعتلي الأسرة والمكتبات.. لكن الأخطر من بينها وأشد فتكاً، من يسارع بنهب كل ما تطاله يده، بوجه حق، أو اغترار بجاه..

قيل سلفاً: "إذا أردت أن يكون لك عزاً لا يفنى؛ فلا تستعززن بما يفنى.."، فالهدف والغاية بألا تحصد أكثر، ولكن بأن تزرع أكثر.. والسمو في البذل لا في الاكتناز، وأن السعادة الحقيقة تكمن في المنح، وأن الاكتناز لم يغطِ حاجة الشعور بالأمان، بل نشوته الكاملة في ازدياد الأعباء، فلعبة التوازن بأن الحياة جميلة وخادعة، فيكمن عندها هذا الجهد، حينها تدرك الوصول لقيمة؛ "وعن عمره فيما أفناه؟!".

فكم من منازل هاوية مكتظة بملايين الوريقات، لمن لم يعد لهم أثراً!، فما المال لنا، وإنما المال ما أكلنا فأفنينا، أو لبسنا فأبلينا، أو تصدقنا فأبقينا.. فهذا ما يضبط بوصلة الحياة...

فالتخلص من وهم "الملايين"، وبرسم أسوأ السيناريوهات وأبشع التصورات، فسترجو حينها هلاك كل الأشياء عداك، فليس لك يد بفناء أو بقاء الأموال..