احذر أن تبرد وحيدًا.. الشتاء سيّئ

سلمى الجابري

أين ستهرب؟ فالقلب سيعتاد على أية حال، لم تتجاوز نفسك بعد، ماذا ستعطي الشوارع غير جسدك المرهق؟ إلى أين الوجهة! وأنت الذي مزق خارطته بألمه، أنت الذي عجن جهاته جيدًا؛ كي لا تأخذه الأقدار مجددًا للعالمِ القديم.

أعرف عابرًا تنازل عن حقه في الكلام، لكنه لم يمت، لم يبتلعه الصمت بعدُ، مازال يقاوم الكلمات بالكتابة، مازال يتشاجر مع الشتائم بالكتابة، مازال ينتظر ويبكي بالكتابة؛ حتى حين بلع وجعه دفعة واحدة، قال قصيدة، ثم لم يسمع صوته أحد.

آهٍ على هذه الكتابة التي تبيد شعورنا ببنادقها، الكتابة فخ وقعنا فيه كلنا، من دون أن يتم تحذرينا منه.

أنا أقرأك، غيري يفعل ذلك أيضًا، ما أعمق التعب الذي يحرس عينك، إنه يتحدث إلينا نيابةً عنك، لا تقلق؛ فصوتك نسمعه كلما ارتفع صوت الناي وسقط في حنجرتك أيها الوحيد، أنت كبائسٍ يمشط الليل بغربته،لا يعرف ماذا سيرثي بعد، قلبه المثقوب أم ذاكرته المسلوب حقها في التذكر؟ تتقطر حزنًا، يكاد الدمع ينفد منك، لا تنتهِ قبل أن تقول كلمتك الأخيرة للحزانى، للسهارى، لمتسولي العاطفة، لا تعطِنا ظهرك قبل أن تنتحب معنا على موتك، قد نتمنع من بعدك عن الحياة أيضًا ونشاركك الانتهاء.

يحدث أن تنام طويلاً، تنام عميقًا، تغرق في الحلم، لا تجد مخرجك، يضيع من أمامك الطريق من دون أن تلحقه، دون أن تضع قدمك عليه، تتلوى بين حدثٍ وآخر، تتوه عن قلبك، أنت نائم بجسدك المتخفف من ندوبه، ندبتك في قلبك، تحملها معك حتى في حلمك، تراهن كل أنصاف الوجوه التي تزورك على وجعك، تندد، تصرخ، تعبّر الرؤى، تحقق بعضها، تخذل الكثير منها، تحب، نحن نحب أيضًا في أحلامنا، تذكر، لا بد وأنك وضعت يدك فوق يدِ أحدهم، لا بدّ وأنك تذوقت الحُلم معه للحدِ الذي حينما أيقظك منبهك بشكلٍ طارئ، لعنت كل الساعات، كل المنبهات، والأعمال التي تدق بابنا كل صباح، وأنت تحتضن الوسادة قبل أن يهرب النعاس مع حبك من دون أن تودعه.

احذر أن تبرد وحيدًا، الشتاء سيّئ، لا يد ستضع راحتها فوق رأسك إذا لم تمد يدك أولاً، لا تعوّل على حطبك؛ فهو رطب بما فيه الكفاية كي لا يشتعل مجددًا، قهوة! لطالما كان الحل في القهوة، تجرعنا الكثير منها على سبيل السهر، على سبيل الدفء؛ حتى اعتدنا مرارة الوحدة، مرارة الغربة، مرارة الفقد، مرارة الأغنيات التي لا يسمعها إلا نحن، مرارة القصائد التي ماتت قبل أن تقرأها الأعين، ياه، كل شيء بدأ مع القهوة وما زال مستمرًا، من دون أن يجد متسعًا كي يستريح قليلاً، مللنا من كثرة الركض، متى ستتلقفنا الحياة، من دون أن تسألنا عن الوجهة؟.