أم الشعور في الصين ـ 1 ـ

الأربعاء


المكان الذي عدت به من الصين مقابر أسرة مينج التي تعاقب من أباطرتها ثلاثة وعشرون إمبراطورا، إنه المكان الذي تركت جزءا من روحي فيه هناك، لا أدري، هل كان التأثير سيختلف لو أنني زرته في مقتبل الشباب أو في منتصف العمر، هل روعني وأقلقني وأرجف نفسي؛ لأنني أقترب من اللا مكان، إلى حيثُ تنتفي الحدود والمقامات الموسيقية، والألوان التي تميز البرد والحر والظل والأصيل؟ لا أعرف لكن يمكنني القول بأن كل ما رأيته في جانب، وهذا المكان في جانب آخر، مكان يقف بمفرده الآن في ذاكرتي، لا يضاهيه آخر، إنه أقوى مكان معبر عن الرحيل الأبدي، رأيته وعانيته في العالم، أقول هذا وقد جبت الكوكب شرقًا وغربًا، ورأيت أشهر النصب والأضرحة والمباني الدينية والتذكارية، لم يؤثر فيَّ مثل هذا الموقع، لقد عدت به أستعيد تفاصيله، وأراه أينما وليت وجهي، خاصة ذلك الطريق الصامت، البارد، الوحيد، المنحني باستمرار، الأبيض كالعدم، إنه المكان الوحيد الذي لم أعرفه، المدينة المقدسة مشهورة، السور الأعظم أقرأ عنه منذ طفولتي، حتى أنني أطلقت على رحلتي تلك «رحلة السور العظيم» برغم أنها مرتبطة بصدور روايتين لي في اللغة الصينية، وبرنامج يفيض بالحفاوة والترحيب سمعت خلاله ما أخجلني، لكن هذا الطريق الرمزي، الموجود مسني وأثار شجاي.

 

الأربعاء

في العودة

بعد أن زرنا سور الصين العظيم، بدأنا العودة إلى بكين، لم أعرف أن الصديق البروفيسور باسم «الاسم العربي لأحد المستعربين الصينيين» لديه نقطة لم يخبرني عنها في البرنامج، عندما اقتربنا من السور طوبي اللون الذي تتخلله بوابة ضخمة على الطراز الصيني ظننت أننا سنزور مكانا مثل المدينة المقدسة، إن الأسوار لا تفصح أحيانا عما تخفيه وراءها، أحيانا يكون علينا الاستنتاج، وأحيانا نتخيل ما تزودنا به من معارف، لم يكن عندي أي معلومات، لكنني بمجرد رؤيتي للبوابة وللسور أدركني أسى ما، إنني إزاء مكان معزول، السور حجاب لكنه أحيانا يشي، من هنا أصغيت إلى البروفيسور باسم، وهو يقول إننا سنزور مقابر أسرة مينج، ظننت أنني سأقصد مقابر بعينها، سأقف على أضرحة الأباطرة التي أصبحت مزارا سياحيا، كل المقدسات القديمة أصبحت مواقع سياحية، أقدس أماكن مصر القديمة أصبحت مواقع سياحية للفرجة، ومصدرا للعملة الصعبة، لا شيء يبقى كما هو، لا شيء يظل مهما كان، كل شيء يدركه التحول بدءا من الفكر إلى الحجر، حقا.. «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، المبنى الذي يقع في المدخل له أربعة أبواب تواجه الجهات الأربع الأصلية، واحد فقط مفتوح إلى الخارج، بمجرد العبور نرى تكوينا غريبا، سلحفاة ضخمة من الرخام، ينهض من منتصف ظهرها عمود ضخم إلى السقف، القطعة التي نحتت منها السلحفاة واحدة، براعة الفنان واضحة، ربما توحي السلحفاة بالعمر المديد في مدخل هذا المكان الحزين، صقل الرخام ومادته وظلال المكان الرمادية تحدث في النفس أثرا يتجاوز السكينة، الجبال متوسطة الارتفاع تحيط بالوادي الذي حفرت فيه قبور الأباطرة، القبور عند سفوح الجبال، اللون الأخضر كثيف سواء خارج السور أو داخله، المكان حديقة ضخمة، لكنها حديقة للأبدية، تبدو في البداية مثل أي حديقة، نجتاز الباب وكأننا سنقبل على نزهة في حديقة غناء، لكن بمجرد اجتياز المبنى إلى داخل الحديقة ندرك على الفور أننا في حيز مغاير، نقف أمام ممر طويل لا تبدو له نهاية، إذ ينحني على مهل، انحناء متمهل حتى في مواجهة البصر، فجأة نرى الطريق وقد اكتمل انحناؤه هناك أو في اللا هناك، الممر عريض يتوسطه طريق أبيض، درجة خاصة من البياض فلا يوجد أبيض واحد، إنما تتعدد الدرجات في الألوان كافة، أبيض شاحب، أبيض آمر بالصمت، أبيض لم أعرف مثله، الطريق الذي يبلغ عرضه حوالي مترين محفوف برمال غامقة، ما بين الأصفر والبني، يلقي هذا بظلاله على الممر الذي نبدأ الخطو عليه، لابد أن نمشي فوقه، فبالرغم من عدم وجود أي علامة ترشد أو تنصح أو تشير، شعرت بأنني مرغم على المشي، فوق هذا الطريق الذي يمتد وسط طريق آخر محفوف بالشجر، وآه من هذا الشجر.