تطوان في رواية أخرى


تطوان هي الفضاء الجميل والأصيل الذي تدور في أكتافه وأعطافه حوادث رواية (أطياف البيت القديم) لخالد أقلعي، وهي أيضًا محورها، وبيت قصيدها، على وترها تعزف، ومن معينها الثري تنهل حكيها.

ولاغرو، فتطوان فضاء روائي، وقصصي بامتياز.

 إنها في حد ذاتها، رواية موصولة في الزمان والمكان.

رواية (أطياف البيت القديم)، هي على شاكلة رواية محمد أنقار السابقة (المصري)، قصيد أو نشيد روائي يطفح بعشق تطوان، ويغوص في وجدان تطوان، مكانًا، وزمانًا، وإنسانًا.

وهي رواية، أقرب ما تكون إلى السيرة الذاتية، سيرة الطفولة، وسيرة تطوان في أزمنتها الجميلة الماضية، ذلك أن الأمكنة المؤثثة لهذه الرواية، هي أمكنة تطوانية بالذات، والصفات، وكثير من شخوصها هي شخوص حقيقية، أكثر مما هي شخوص ورقية من صنع المخيلة.

لكن، هل هي «رواية » فعلاً، بالدلالة الاصطلاحية الدقيقة لهذه الكلمة؟!

أنا أميل إلى اعتبار فصول ولوحات هذه الرواية بمثابة محكيات، أو حكايات عن الحارة التي نشأ فيها الطفل السارد، والبيت القديم الذي تربى في كنفه، وانثالت منه أطياف الذكريات تترى.

ولعلي في اختيار كلمة (أطياف)، ما يزكي، ويعضد صفة المحكيات، أو الحكايات هذه، على غرار (حكايات حارتنا) لنجيب محفوظ التي يحكي فيها بدوره أطيافًا وظلالاً من ذكريات الحارة، وأحوال ومصائر أناسها في قالب سردي يتناوح بين الرواية والسيرة الذاتية، والمجموعة القصصية.

ونجيب محفوظ، بالمناسبة، حاضر ضمنًا في هذه الرواية، كما هو حاضر ضمنًا وعلنًا في رواية (المصري) لمحمد أنقار، وكثيرًا ما يستعمل السارد كلمة (الحارة) ذات النبرة المصرية، مع أنها قليلة التداول في البيئة المغربية.

وتعتمد الرواية في الأساس تقنية التذكر لاستحضار، واستقطار أطياف السيت القديم، بلا خيطية روائية.

وبالتالي بلا حبكة روائية تشد أواصر المحكي وتمضي به صعدا.

من هنا تكثر أفعال التذكر في الرواية، كلازمة سردية Leit motif، لأجل لم شعث المحكيات، وتجاوز تجاويفها، وتناقضاتها.

إنها رواية استعادة الماضي والنبش في أطوائه، تمامًا كالنبش في تضاريس البيت القديم، وأطوائه.

رحلتان متصاديتان متآخيتان، في الزمان والمكان، وما يحصل عبرهما للإنسان.

فلنقترب قليلا من البيت وآل البيت، لنتلمس بعضًا من شعرية هذه الرواية.

ولنقرأ على سبيل المثال، هذا الوصف الدقيق لمحتويات (العلية) وهي مغارة متحفية مركونة في أعلى البيت القديم.

 ركام كتان، وقطع قماش كثيرة ممزقة، وكبات خيوط، وصوف، وحرير ذابلة مهملة، صحون، وأطباق مفرومة، فناجين، وكؤوس منزوعة الأيدي، أباريق مجذوعة الأنوف، ركوة آجور، وصناديق سيراميك، وأكياس جير، وفحم، وأسمنت، مكنسات فقدت منذ زمن بعيد شعرها وكثيرًا من بهائها، ألحفة رمادية تنبعث منها رائحة الكبريت، فرن أعراس ضخم ببابوره النحاسي الأشهب، أسلاك كهرباء، وملاقط غسيل، ومطرقات خشبية منزوعة الرءوس، وكومة مسامير هندية موثوقة بقنب أسود.

إنها لقى، وأشياء، لا يمكن أن ينتبه إليها سوى عين روائية، أو قصصية حصيفة، ورهيفة، تعتمد الوصف المشهدي، المجهري المتسقط لأدق التفاصيل والجزئيات. والوصف هو قوام وعمود هذه الرواية، وعينها الساهرة اليقظى التي تهتك الستور، وتتلصص على المستور.

كان هذا زمنيا، «أيام زمان» تعود إلى الخمسينيات من القرن الفارط، حيثُ كانت تطوان ترفل في حلتها الأندلسية الناعمة ككاعب مغناج، من هنا أهمية هذه الرواية التاريخية والاجتماعية، وتجليتها الشعرية السردية.

ولعل البيت القديم في حد ذاته، مدار هذه الرواية، أكبر وأبلغ علامة على ذلك الزمان الجميل الذي أصبح في خبر كان.

هذا البيت القديم بطوابقه، وغرفه، ومغاراته، ودهاليزه، وسلالمه، وسطوحه، يضم أسرة عنقودية كاملة، بل شجرة أنساب وارفة الأغصان والأفنان، تتكون من الجد والجدة والأب والأم وسلسلة من الأعمام والعمات العوانس والخالة رقوشة.... إضافة إلى الصبايا المليحات، زينة وبهجة البيت القديم.

وواسطة هذا العقد العائلي النضيد، هو الطفل السارد المهدي، عين الرواية وسمعها ووجدانها.

وكما تذرع بنا الرواية مصائر شخوص تطوانية خالصة اسما ووجها ولسانا، تذرع بنا بموازاة ذلك، دروب وأحياء وأزقة تطوان العتيقة – العريقة (درب الصور دو، المطامر، النيارين وغيرها..).

وإذا كان البيت القديم بدرب الصور دو، قد صار مهجورا بعد أن رحل عنه آله وأحبابه، وعدت عليه عوادي الزمن، فقد صار بيننا بيت روائي – تطواني جديد وجميل، هو الذي شاده وأبدعه خالد أقلعي، عبر صفحات روايته، بكل العشق والحب للمنزل الأول، وللحبيب الأول.