ثرثرة


مثلما كان يحدث أيام زمان، حول التنوّر أو فوق المصطبة، في الضيعة، حين يلتئم الشمل، وتفلش كل واحدة بقجتها، وتسنّ لسانها قبل أن تبدأ الكلام.

<<< 

ويكون، عادة، كلاماً حاداً، يتناول الغائبين عن الحلقة، أو أناساً معروفين من الأطراف المجتمعة.

<<< 

وكانت هناك، دائماً، امرأة تتفوّق على سائر الحضور بنكهة حكاياتها، وبأسلوبها في القَصّ وتلوين الصور التي تعرضها لمستمعيها.

وهي التي يمكن تسميتها «الحكواتية»؛ غير أن حكاياتها لم تكن خرافية، بل مرتبطة بالواقع، وبأُناس معروفين من جميع الأطراف.

<<< 

ومن عادة تلك السيدة أن تبدأ حديثها بسؤال لا تلبث أن تجيب هي عليه ولا تنتظر جواباً من الخارج:

ـ عْرفْتو شو صار بفلانة؟ أو شو عمل فلان؟

<<< 

في طفولتي، كانت تلك اللقاءات، تستهويني، فأجلس في ركن غير بعيد مع لداتي ونُصغي.

وربما كانت تلك الجلسات هي مصدر رواياتي وقصصي.

لكن ما قمتُ به من كتابة يظلُّ روائياً، أي خيالياً، حتى ولو كان مستلاً من صميم الواقع؛ بينما القصص التي كانت تنثرها هند أو مريم، فتتصل بالناس وبأسرار يحرصون على كتمانها حرصهم على سواد العين.

<<< 

وكانت فاكهة ذات طعم ورونق، حكاياتهن في ذلك الزمان، وقبل غزو التلفزيون. وظلّتْ من أهم وسائل السلوى والترفيه؛ وتدور، فيما الجماعة تشربُ الشاي والقهوة، أو تعمل في إعداد مؤونة الشتاء.

<<< 

ما استنهضَ هذه الذكريات، هو ما نقرأه في الصفحات الأخيرة من الصحف؛ فبعدما يُصاب قارئ الصحيفة بالخيبة من تدهور الأحوال السياسية، تلزمه فسحة يرتاح فيها، وينسى المتاعب؛ فتأتيه تلك الصفحة الأخيرة بأخبارٍ ملوّنة إما بفضائح نجوم المجتمع، أو بأخبار الجَمال والترفيه. وهي في ذلك تُشبه، إلى حدّ بعيد، جلسات الثرثرة حول تنور الضيعة.

<<< 

وإذْ يتساءل القارئ الذكي، عن جدوى نشر تلك الفضائح، فلا يجد جواباً سوى أن الناس العاديين يَتوقون إلى قراءة تلك الأخبار لأنها تتناول المشاهير، ولها نكهةٌ خاصة، إذ تؤكّدُ لقارئها، بأن لأولئك الناس الذين تتلألأ أسماؤهم في فضاء الشهرة، نقاطَ ضعف، وتجعلهم يبدون عاديين.

<<< 

وفيما أحرّر هذه الكلمة، تحضر أمامي عدّةُ صحف محلية، وقد نشرتْ جميعُها صورةً لإحدى نجمات المجتمع الأميركي، وهي امرأة شقراء، جميلة وثرية، لكن لا يبلغنا من أخبارها سوى الفضائح.

<<< 

وما يحدثُ لهذه السيدة قد يطالُ امرأة عادية ومن طبقة متواضعة، فَلا يحفلُ أحد بنقلِ الخبر.

<<< 

ومثلما تتناول أخبار الفضائح نساء شهيرات، فإنها لا توفّر الرجال، من نجوم السينما أو المجتمع.

ويبقى لها سحرٌ يعادل ذلك السحر الذي يميّز جلسات الثرثرة فوق مصاطب الضيعة، أو حول التنّور.

<<< 

ولا أزال أذكر تنبيه الوالدة، ونحن في سنّ الطفولة، إلى الإبتعاد عن تلك اللقاءات، وعبارة كانت تردّدها باستمرار:

ـ مالنا وللناس.

و.. كل الناس خير وبركة.

<<< 

وأتساءل اليوم، وبعد رحلة طويلة مع القصّة والرواية، إن كانت جلساتُ التنصّت حول المصطبة، أو التنّور، هي التي غرست فيّ البذور الأولى للرواية؟