ذات العينين الرماديتين


كل عام وأنتم بخير طبعا، وليس بيننا وبين رمضان إلا قليل، أقول هذا لأنني تذكرت أني في أحد الرمضانات كنت خارج مصر، كان بلدا في شمال الشمال، تقريبا جار القطب، والشمس تغرب فيه بعد منتصف الليل.

لا أدري لماذا كنت أظن أن العالم الإسكندنافي بحره رمادي، لكنني عندما أخذتني قدماي ونزعة مجهولة لأقصى شمال السويد، وكان الوقت قمة الصيف، بهرتني ورمتني السماء على الأرض منتشيا بالاستنشاق العميق للأكسجين النقي، وكان البحر لا يقل عنها زرقة.

لم يكن ينقصني إلا ذات العينين الرماديتين، لم تكن ملامحها سويدية.. شعر أسود ناعم هفهاف، بشرة ليست شاهقة البياض، وعينان رماديتان.

اقتربت دون أن أدري، سمرتني العينان مكاني، بدأت أدخل في عالم ليس فيه إلا بحر أخضر ووشوشات محار، حاولت أن أنصت بتركيز لتلك الوشوشات فلم أفهم، ربما لأن هذه قواقع سويدية، وفجأة أحسست بأنني جائع.

قادتني من يدي لأقرب مطعم، قلت هل أذن المغرب، أقصد هل غربت الشمس؟ قالت: لِمَ؟، قلت: نحن في رمضان، فلم تفهم شيئا، لكنها نظرت في ساعتها وقالت: نحن الآن في التاسعة، والشمس تغرب في الثانية عشرة، قلت لكني جوعان، قالت: ما يمنعك عن الطعام؟

نحن المسلمين نصوم نهار رمضان -وهو أحد أشهر تقويمنا- ولا نفطر إلا بعد غروب الشمس، فاختفت كأنها لم توجد أبدا.

يا ذات العينين الرماديتين، ردي لي وعد الغروب، أو حرريني من أسرك لكي أعود إلى وطني.

كل هذا حدث وهي تقف غير بعيد مني، لقد استجابت لندائي وردتني إلى واقع الشاطئ وخلفية البحر المنومة العطرة.

لماذا كل شيء ينوِّم هنا؟ هل ضعف عقلي من الجوع والعطش؟ لماذا سافرت لليالي البيضاء وأنا مسلم؟ لماذا لا أعود إلى وطني؟ لماذا لا تتحرك هذه الفتاة من ساعة ما هبطت إلى الشاطئ؟ لماذا لا تحول عينيها عني؟

العينان الرماديتان تمتصانني، تسافران بي، تهبطان، وتتركانني نائما على شاطئ بلادي.

 

منذ عودتي إلى بلادي والعينان الرماديتان تزورانني كل ليلة، الوجه الصامت والعينان المتكلمتان؛ العينان قارئتا تعازيم السحر، المتخصصتان في علم التنويم، أحيانا أجد نفسي في شمال السويد مرة أخرى، لماذا يريد البحر القطبي أن يبتلعني؟ وهل هي مندوبة القطب في هذا العالم؟ أم ظهرت لي أول مرة رحمة بي من صيف جار القطب ولياليه البيضاء، وهي بضع ليال لا تغيب الشمس فيها أبدا؟

ولكن إذا كان هذا صحيحا، فلماذا جاءت ورائي وأقامت عندي؟ لماذا تزورني بلا انقطاع؟ ما الذي تريده مني؟

قالت العينان الرماديتان:

حاول ألا تفكر طويلا، ولا تخشَ مني شيئا، إذا اطمأننت لي فسأكون جارتك العزيزة، وسنثرثر في أشياء كثيرة، ويشيع الود والدفء بيننا، ليس من المهم أن تعرف من أو ما أنا، ودعني أنومك من حين لآخر؛ لأريك أشياء لا تخطر على بال بشر.

ومن يومها وأنا أرى أشياء لا تخطر على بال بشر.

أهيم في ممالك كل شيء فيها مسحور، وأعود من حين إلى آخر؛ لكي أحدثك حديث الأسبوع يا سيدتي، فائذني لي أن أنصرف؛ حتى أعود إليك الأسبوع القادم محملا بهدايا الأسفار وبخور وبهار الهند والسند وبلاد تركب الحيتان، واغفري لي أن جئتك بغريب الكلام، فهو لا يقاس بما أرى من غرائب في سياحتي بين العجائب.